الشركة الأفريقية للأسمنت بفزان مشروع تنموي ينهض من جديد

بقلم/ سالم أبو خزام
في قلب منطقة محروقة بالشاطئ، حيث ذاكرة الشهداء الذين تصدَّوا لجحافل الاستعمار الإيطالي، نشأت فكرة تأسيس مشروع صناعي وطني يحمل بين طياته طموحًا اقتصاديًّا وإنسانيًّا كبيرًا. من هذا الموقع الرمزي، تأسست الشركة الأفريقية للأسمنت في عام 2003 برأس مال بلغ 64 مليون دينار ليبي، استنادًا إلى رؤية مؤسسيها في أن تكون رافدًا تنمويًّا حقيقيًّا في الجنوب الليبي، وركيزة لدعم الاقتصاد الوطني.
لم تقتصر أهداف المشروع على الجوانب الإنتاجية فقط، بل ارتكزت على أساس تنموي متكامل يأخذ في الاعتبار الحاجة الملحة لتوفير فرص عمل حقيقية لشباب المنطقة، والمساهمة الفعلية في النهضة العمرانية من خلال الاستفادة من المواد الخام المحلية. وقد أشارت التقديرات المبكرة إلى إمكانية خلق آلاف فرص عمل مباشرة وغير مباشرة في مختلف مراحل المشروع، وهو ما يعكس طموحًا غير تقليدي لإعادة تموضع الجنوب في الخريطة الصناعية الليبية.
انطلاقًا من هذا الطموح، وُضعت خطة شاملة لإنشاء مصنع لإنتاج الأسمنت البورتلاندي بطاقة تصل إلى 1.5 مليون طن سنويًا، بالإضافة إلى مشاريع رديفة تشمل مصانع للطوب الرملي الجيري والحديد والصلب، مستندة إلى دراسات فنية مسبقة لاستخدام الموارد المتاحة محليًّا. كما سعت الشركة إلى الانخراط في مجال استيراد وتصدير المواد المرتبطة بقطاع البناء، مع حرص واضح على الالتزام بمعايير الجودة العالمية عبر السعي إلى الحصول على شهادة الأيزو.
وفي هذا الإطار، تم التنسيق مع مركز البحوث الصناعية بطرابلس لتطوير مجموعة من الصناعات المصاحبة المرتبطة بمشروع الأسمنت، والتي تم توزيعها على نطاق واسع في مناطق فزان. فقد شملت هذه المشاريع تصنيع الأسمنت البورتلاندي في كل من الشاطئ والجفرة، إلى جانب إنشاء مصنع للحديد والصلب في منطقة تاروت، ومصنع للطوب الجيري في سبها، بالإضافة إلى مشاريع لاستخراج وتصنيع السيلكا والزجاج الكريستالي في المنصورة، والرخام في آقار، والطوب الآجر في اشكدة، وأخيرًا البلاط الأرضي والجدراني في محروقة، حيث انطلقت الفكرة الأولى.
لكن رغم هذا الزخم، لم يسلم المشروع من تداعيات الانفلات الأمني والصراع السياسي الذي أعقب أحداث 2011، إذ تعرضت منشآت الشركة لنهب وتخريب ممنهج طال الشاحنات، والمعدات التشغيلية، والسيارات، والآلات الثقيلة، فضلًا عن تشوينات الحديد وأسلاك الكهرباء والأعمدة والمرافق السكنية للعمال، في مشهد عبثي يعكس حجم الخسارة وضياع مقدرات تنموية كان يمكن أن تُحدث فارقًا ملموسًا في حياة آلاف الأسر.
ورغم حجم الضرر، لم تستسلم إدارة الشركة لهذا الواقع، بل أعادت ترتيب أولوياتها بإرادة متجددة، فعادت لتخوض مسارًا آخر من البناء والتعاقدات، كان أبرزها التوقيع مع شركة “هايبو” الصينية التي باشرت العمل الميداني يوم السبت 26 أبريل 2025، ضمن خطة تمتد على مدار 18 شهرًا تهدف إلى استكمال المشروع واستعادة طاقته الإنتاجية الكاملة.
ومع هذا التعاون الدولي، برزت حاجة استراتيجية لتعزيز التواصل الثقافي والمعرفي، فقررت الشركة إنشاء معهد متخصص لتعليم اللغة الصينية، في خطوة تؤسس لتفاعل معرفي يخدم أبناء المنطقة، ويرتبط بالتحول التنموي المتوقع أن يشهده الجنوب خلال المرحلة القادمة، خاصة مع ازدياد الانخراط في مشاريع إنتاجية تعتمد على شراكات خارجية.
وقد تزامن هذا التحول مع حضور واسع من مختلف الفعاليات الاجتماعية والرسمية، حيث شارك عمداء البلديات، وأكاديميون، وأعيان من جميع مناطق فزان في التعبير عن دعمهم لهذا المشروع، الذي بدا وكأنه ولادة جديدة لروح الإنتاج في الجنوب.
وفي ظل هذا المشهد، كان حضور ضباط وأفراد من القوات المسلحة والشرطة مؤشرًا مهمًّا على توفر الغطاء الأمني اللازم لانطلاق التنمية، وهو ما يعكس واقعًا جديدًا بدأت معالمه تتشكل، حيث تتقدم المشاريع الاقتصادية في حمى مؤسسة وطنية تحمي وتحرس ولا تهيمن، وتسند ولا تتدخل، لتكون التنمية في خدمة الوطن والمواطن، تحت راية الأمن والاستقرار.