مقالات الرأي

قناة السويس وجنون ترامب

بقلم/ مونيكا عياد

“التاريخ لا يكتب بالأماني، بل بالحقائق الراسخة”.. بهذه الكلمات علق المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي على محاولات تزييف التاريخ. مقولة تذكرنا بالتصريحات الأخيرة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب والتي أثارت موجةً من السخرية والاستنكار، بعدما ادعى أن الولايات المتحدة هي من “أوجدت” قناة السويس، مطالبًا بإعفاء سفنها العسكرية والتجارية من رسوم العبور، في خطوةٍ تذكرنا بعقلية الهيمنة الاستعمارية البائدة. لكن ما وراء هذا التصريح وهل هو مجرد زلة لسان أم جزء من استراتيجية أكبر في إطار الحرب التجارية مع الصين؟ 

هذه المزاعم تأتي في وقت تشتد فيه المنافسة الأمريكية – الصينية التجارية، وتتحول الممرات المائية إلى ساحات صراع جيوسياسي.

وبعض التحليلات رأت أن ترامب يستخدم القناة كورقة ضغط في حربه الاقتصادية، خاصةً مع مرور 30% من صادرات الصين عبر السويس.

ادعاء ترامب بأن قناة السويس “ما كانت لتوجد لولا أمريكا” يكشف جهلاً فادحاً بالتاريخ. فالقناة، التي افتتحت عام 1869 بُنيت بدماء المصريين وتحت إشراف المهندس الفرنسي فرديناند ديليسبس، بينما كانت الولايات المتحدة غارقة في حربها الأهلية. حتى الاحتلال البريطاني للقناة لاحقاً لم يكن للأمريكيين دور فيه، مما يجعل تصريح ترامب محضَ هراءٍ تاريخي. 

لكن الأهم من السخرية من جهله هو الرسالة الكامنة حول عقلية “الأمركة” القائمة على أن العالم مدين لأمريكا، وأن عليها أن تحصل على امتيازات دون مقابل. وهو نفس المنطق الذي يحكم سياساته التجارية، خاصةً تجاه الصين. 

ترامب الذي أشعل حرباً تجارية مع الصين خلال ولايته، يدرك أهمية الممرات المائية في الصراع الاقتصادي العالمي. فقناة السويس تشهد نحو 12% من التجارة العالمية، بما في ذلك صادرات الصين إلى أوروبا.

وهنا أشار مركز الأهرام للدراسات إلى أن ترامب “يحاول استغلال الحرب التجارية مع الصين لتمرير أجندته”، لكن مصر لديها أوراق ضغط مثل اتفاقية السلام مع إسرائيل لوضع حد لهذه المطالب.

ونري ان مطالبة ترامب بإعفاء السفن الأمريكية من الرسوم قد تكون محاولةً لتحقيق مكاسب استراتيجية: 
– ضرب المنافسين: إذا حصلت السفن الأمريكية على إعفاء، ستدفع الشركات الصينية والأوروبية تكاليف أعلى، مما يضعف تنافسيتها. 
– سياسة العصا الغليظة: في محاولة لفرض شروط على مصر بنفس السياسة التي اتبعها مع دول أخرى. 
– إرسال رسالة للصين: بأن أمريكا لن تتردد في استخدام كل الأوراق، حتى الممرات المائية، في حربها الاقتصادية. 

أدلة تنسف مزاعم ترامب

1. وثائق تاريخية قاطعة:-
– تقارير لجنة القناة الدولية (1854-1869) تثبت أن المشروع كان مصرياً-فرنسياً ، وذلك عندما وقع حاكم مصر محمد سعيد باشا امتيازاً يمنح السياسي الفرنسي فرديناند ديليسبس لإنشاء شركة تشرف على مشروع قناة السويس لربط البحر الأحمر بالبحر المتوسط.
–  إلا أن التاريخ الفعلي للقناة يعود لقرون، إذ تشير بعض المصادر إلى أن فكرة القناة تعود لفرعون مصر سنوسرت الثالث.استمر العمل في القناة أكثر من عشر سنوات، وافتتحت بشكلها الحالي في 17 نوفمبر 1869.

– مذكرات فرديناند ديليسبس تؤكد غياب أي دور أمريكي في الحفر 

2. أساس قانوني: 
– المادة 1 من اتفاقية القسطنطينية 1888 تنص على حرية الملاحة مع احتفاظ مصر بحق فرض الرسوم 
– قرار مجلس الأمن 118 (1956) يؤكد السيادة المصرية الكاملة على القناة 

انتقادات الصحف الأجنبية

فيما تناولت العديد من الصحف الأمريكية والأوروبية تصريحات دونالد ترامب حول قناة السويس، ووصفتها بأنها “غير واقعية”، “استعمارية”، و”تجاهل للقانون الدولي”، وذلك وفقا للتقارير التي نشرت فيها ردود الفعل المصرية والأوروبية حول تصريحات ترامب الأخيرة.

وصفت ” الواشنطن بوست” تصريحات ترامب  بأنها “إعادة لإنتاج خطاب الاستعمار القديم”، مشيرةً إلى أنه يتناسى أن العالم لم يعد يعمل بقوانين القرن التاسع عشر، كما أشارت إلى أن مطالبه تنتهك مبدأ “السيادة الوطنية” لمصر وبنما.

وذكرت رويترز في تقرير آخر ر على لسان خبراء  أن ترامب لم يقدم أي أساس قانوني لمطالبته، وأن رسوم العبور تخضع لاتفاقيات دولية وليست قراراً أمريكياً.

فيما لفتت بوليتيكو أوروبا إلى أن تصريحاته تتعارض مع ردود فعل رسمية من بنما ومصر، اللتين أكدتا أن الرسوم تُدار بواسطة هيئات مستقلة.

وانتقدت لو موند الفرنسية  ادعاء ترامب بأن “أمريكا أوجدت القناة”، ووصفته بـ”الجهل بالتاريخ”، مشيرةً إلى أن فرنسا هي من قادت بناء القناة في القرن التاسع عشر.

واعتبرت الإيكونوميست البريطانيا أن تصريحات ترامب في الفترة السابقة  تعكس “عقلية هيمنة عفا عليها الزمن”. وأوضحت أن سياسات ترامب الخارجية تُظهر توجهات استبدادية وانعزالية تهدد الاستقرار العالمي، و تكرس الهيمنة الأحادية

بين السخرية والتحليلات

لم يتردد رواد السوشيال ميديا في فضح أكاذيب ترامب، حيث هزؤوا من ادعائه أن أمريكا بنت القناة، بينما كانت غارقة في حرب أهلية وقت إنشائها. كما انتقدوا عقلية “المجانية” التي يريدها ترامب، معتبرين أنها استمرار لسياساته التي ترفع شعار “أمريكا أولاً” حتى على حساب الشرعية الدولية. 
نشطاء مصريون رفعوا هاشتاجات مثل #قناة_السويس_مصرية، مؤكدين أن “السيادة ليست للبيع” . 
وهاجم إعلاميون مثل إبراهيم عيسى الذي وصف ترامب  بـ”الجاهل بالتاريخ”، مشيرين إلى أن سياسته تعتمد على “الفوضى والابتزاز” . 

فيما أكدت مصادر عسكرية و دبلوماسية رفيعة المستوى أن:   مصر لن تتنازل عن ذرة من سيادتها، وأن نظام الرسوم سيظل مطبقاً على جميع السفن دون استثناء، والقناة ستظل منارة للسيادة الوطنية كما كانت منذ 150 عاماً.

و أشار وزير الخارجية المصري، بدر عبدالعاطي، إلى أن التصريحات الأمريكية المتكررة من قبل ترامب تعكس انفعالية ولا تستند إلى تخطيط دقيق، مما يجعلها غير قابلة للتطبيق في الواقع.

و أكد الخبراء القانونيون مثل الدكتور أيمن سلامة أن مصر لن تتنازل عن سيادتها، موضحا أن اتفاقية القسطنطينية 1888 تكفل حياد القناة، لكنها لا تلغي حق مصر في فرض رسوم العبور. كما أن القانون الدولي يمنح مصر سلطة تفتيش السفن وفرض لوائح الأمن، وهو ما ينسف مزاعم ترامب. 

فيما طالب حزب الوفد، الحكومة باتخاذ إجراءات دبلوماسية قوية، بما في ذلك تقديم شكوى رسمية إلى الأمم المتحدة إذا لزم الأمر. ودعا نشطاء وحقوقيون  إلى حملات ضغط على السفارة الأمريكية في القاهرة، معتبرين أن ترامب “يحاول استغلال الأزمات الإقليمية لفرض أجندته”.

المشهد ليس جديداً. فترامب الذي عود العالم على تصريحاته المثيرة، يعيد إنتاج نفس النموذج: التهويل، تزييف التاريخ، وفرض الشروط الأحادية. لكن الفارق هذه المرة أن مصر ليست ضعيفة، وأن القناة ليست ورقة في لعبة القوى العظمى. 

في النهاية، أري أن تصريحات ترامب ليست سوى حلقة أخرى من مسلسل الهيمنة الفاشلة، لكنها تذكرنا بأن المعركة الحقيقية ليست حول رسوم العبور، بل حول من سيكتب قواعد النظام العالمي الجديد.

والسؤال الأهم: هل يعتقد ترامب حقاً أن العالم سيقبل بإملاءاته، أم أنه يغرد خارج السرب مرة أخرى؟ الإجابة واضحة في سخرية العالم وتصميم مصر على الدفاع عن سيادتها.

زر الذهاب إلى الأعلى