مقالات الرأي

ما الإنسان؟ المداخلة الرابعة عشرة: في الجملة (2)

بقلم/ مهدي أمبيرش

لقد سبق أن أشرتُ عديد المرات إلى أن مشكلة الإنسان، منذ آدم عليه السلام وزوجه، هي مشكلة معرفة، وأولاها جهل الإنسان بنفسه؛ وهو نفسه الغرور الذي جعل آدم المحدود يتوهم أنه بإمكانه أن يمتلك المطلق، وهو ما أوصله إلى أن ينسى أن تعليمه العلاقة بين المسمى والاسم قد تم تحديد قدرته به.

فالربط بين الاسم والمسمى قدرة وهبها الله للإنسان، وترتبط بحدود معرفته. ولا تزال مشكلة العلاقة بين الاسم والمسمى قائمة إلى اليوم؛ حاول مفكرون، ولا يزالون، إيجاد حل لها، والجهود التي بُذلت قديمًا وحديثًا هي ذاتها، فكلما توهم الإنسان أنه حلها أو قارب حلها، تبدأ له إشكالات جديدة.

كل إشكالية تصير مشكلة قائمة بذاتها، ربما من خلال هذه المحاولات نستطيع أن نرى في محاورة طيماوس ومحاورة مينون على وجه الخصوص، وبعض محاورات أفلاطون الأخرى، ما يكشف عن التخبط في هذه المتاهة، حيث حاول أفلاطون القول بثنائية السماء والأرض، واعتبر أفلاطون أن ما نتوهم أننا ندركه أمامنا عبر منافذ العين والأذن واللمس واللسان والشمس، كله وهم؛ لأن الحقيقة مفارقة في السماء، وأن الموجودات التي ندركها ليست سوى نسخة مشوهة لتلك الحقيقة الكاملة القبلية في السماء حيث الآلهة. ومن ثم، لا مجال لإمكانية التعلم بمعناه الحسي، بل اللجوء إلى الذاكرة، أي إلى ما بقي في النفس عندما كانت في السماء، قبل أن تفقد توازنها وتسقط في سجن الجسد.

وتأتي محاورة مينون دليلًا على ذلك؛ أي أن أسلوب أفلاطون لا يقوم إلا على إنعاش الذاكرة. أما الأسماء، فهناك أسماء إلهية مقدسة، وأخرى اتفاقية لا تأتي في مرتبة الأولى، والحواس مضللة، ولا يمكن الاعتماد عليها، مادامت لا ترى إلا الموجودات، التي، كما ذكرنا، أوهام وظلال للحقيقة.

ويقدم أفلاطون مثالًا لذلك بما عُرف بـ”أسطورة الكهف”، حيث يصور جماعة داخل كهف مظلم مقيدين، ولا يرون إلا ظلال الأشياء أمامهم، الفتحة خلفهم ينفذ منها بصيص نور، ولا يرى الجالسون إلا ظلال ما بالخارج، الكهف هنا رمز للجسد أو للمادة المعتمة، والسلاسل رمز لقيود الشهوات، وإذا قُدّر لأحدهم أن يتحرر من قيوده ويخرج إلى ضوء الشمس، فقد يتعبه الضياء في البداية، لكنه سرعان ما يعتاد عليه، ويدرك حينها أنه كان يعيش وهمًا.

ويؤدي هذا الخارج مهمة المخلّص، فيعود إلى الكهف ليحاول إقناع الباقين بأنهم يعيشون في الوهم.

هنا يتبين لنا أن مشكلة إدراك المطلق أو الحقيقة، أو ما يسمى اليوم بالمعرفة اليقينية، كانت الهاجس الذي دفع أفلاطون إلى قبول اللاهوت القديم، ضمن ثنائية السماء والأرض، وهي الثنائية التي نجد صداها اليوم في ثنائيات الجسد والنفس، أو الجسد والروح، وثنائيات أخرى مثل الحاكم والمحكوم، المقدس والمدني، بل حتى في التعبير: الاسم والفعل، هذه الثنائيات قرأناها في ما عُرف بالمدارس الكلامية العربية، التي قادها الأعاجم، وكانت خطابات تخدم مصالح السلطة أو المعارضة.

ولا يفوتنا هنا الإشارة إلى تأثر أفلاطون بالشامانية الهندية، وهي نزعة تقوم على احتقار الجسد والتغير والصيرورة، وترى أن الجسد ملوث ويجب التخلص منه، وترفض الحركة باعتبارها مظهرًا للفعل، وتعتبر الخلاص في الوصول إلى حالة اللا فعل والسكون، أو ما يسميه بعضهم بالصوفية العدمية.

فالخلاص من الجسد في العقائد الهندية يتم عبر التناسخ أو من خلال طقوس حرق الجسد كما في المجوسية، حيث يُعتقد أن رماد الجسد في نهر الغانج المقدس يطهر النفس من لعنة الجسد المدني، أما النفس فتحل في جسد حيوان بخصائص قريبة من الموت، ويتم تعذيب الحيوان حتى تتطهر النفس.

كنا نربط بين هذه المحاولات ونفس المحاولة الزرادشتية في القول بمعراج زرادشت إلى السماء على دابة بين البغل والحصان، وهي ذات الخرافة التي أدخلها بعض المفسرين الأعاجم وربطوها بحادثة الإسراء والمعراج في القرآن، غير أن أفلاطون يقدم معراجًا صوريًا من خلال ما عرف عنه بالجدل الصاعد (المعراج) والجدل الهابط، ولا يكون ذلك إلا للخاصة ضمن نزعته الأرستقراطية الاستعلائية، حيث يعتبر أن معدن هؤلاء من الذهب.

زر الذهاب إلى الأعلى