مقالات الرأي

حين يطالب المستفيدون برفع الدعم: مفارقة الاقتصاد الليبي

بقلم/ عثمان يونس

في مشهد يعكس عمق التناقضات التي يعيشها الاقتصاد الليبي، أثارت تصريحات رئيس غرفة التجارة والصناعة والزراعة، بشأن ضرورة رفع الدعم عن الوقود والكهرباء والمياه، وإعادة النظر في الكادر الوظيفي، موجة واسعة من الغضب والاستياء الشعبي.

التصريحات، التي جاءت في لحظة حساسة تتفاقم فيها الأزمات المعيشية للمواطنين، لم تمر مرور الكرام، بل فجَّرت جدلًا واسعًا حول مدى مشروعية مثل هذه الدعوات، خاصة حين تصدر عن شخصيات تعد من كبار المستفيدين من الفوضى الاقتصادية الحالية.

الغضب الشعبي لم يكن موجهًا فقط إلى مضمون التصريحات، بل بالأخص إلى الجهة التي أطلقتها. فوفق متابعين للشأن الاقتصادي، تعد شركة “النسيم”، المملوكة لرئيس الغرفة، من أبرز المستفيدين من منظومة الدعم بشكل غير مباشر. إذ تتحصل سنويًّا على اعتمادات مستندية بمئات الملايين من الدولارات بسعر الصرف الرسمي، ثم تطرح منتجاتها في السوق بأسعار السوق الموازية، محققة أرباحًا ضخمة من فارق العملة.

هذا الواقع، في نظر كثيرين، يكشف عن مفارقة صارخة: مستفيدون من الدعم يطالبون بإلغائه عن كاهل عامة المواطنين، دون أن يترافق ذلك مع إصلاحات جذرية أو مساعٍ لمعالجة التشوهات الاقتصادية العميقة.

ردود الفعل الشعبية لم تتأخر، إذ أطلق ناشطون حملات لمقاطعة منتجات شركة النسيم، معتبرين أن المقاطعة وسيلة سلمية للتعبير عن رفض الاستغلال الاقتصادي وغياب العدالة. ووجدت هذه الدعوات صدى واسعًا لدى شريحة كبيرة من المواطنين، الذين ضاقوا ذرعًا بما يرونه من تواطؤ بين السلطة والمال على حساب مصالح الناس.

إلا أن الدعوة إلى مقاطعة المنتجات المحلية، رغم مشروعيتها الرمزية، تطرح إشكالات أخرى. فالشركات الوطنية، مهما كانت ممارساتها موضع جدل، تلعب دورًا مهمًا في الاقتصاد المحلي عبر توفير فرص العمل، والمساهمة في تقليل الاعتماد على الواردات الخارجية.

من هنا، تبدو الحاجة ملحة إلى مقاربة أكثر عقلانية توازن بين الغضب الشعبي والاعتبارات الاقتصادية.

بدلًا من المقاطعة العشوائية، المطلوب هو فرض رقابة حقيقية على هذه الشركات، وضبط عمليات الاستيراد، وتقييد الاعتمادات المستندية بضوابط شفافة تضمن منع الاستغلال، وتشجيع هذه الكيانات على تخصيص جزء من إنتاجها للتصدير، بما يسهم في دعم احتياطيات البلاد من النقد الأجنبي.

من الناحية الاقتصادية، لا شك أن أي تراجع في مبيعات الشركات نتيجة المقاطعة قد يدفعها إلى مراجعة سياساتها التجارية، وربما إعادة التفكير في أساليب تمويلها وتسعير منتجاتها. ومع ذلك، فإن الرسالة الرمزية الأهم هي اتساع دائرة الوعي الشعبي بالقضايا الاقتصادية، وتأكيد أن الرأي العام بات أكثر قدرة على فرز الحقائق ومساءلة المتنفذين.

في نهاية المطاف، يظل رفع الدعم ملفًا شائكًا لا يمكن التعامل معه بمعزل عن إصلاح شامل للمنظومة الاقتصادية.

فالإصلاح المالي الحقيقي لا يتحقق بمجرد رفع الدعم أو تحميل المواطنين وحدهم تبعات الأزمة، بل يتطلب رؤية متكاملة تبدأ بمكافحة الفساد بجميع أشكاله، وإعادة هيكلة المؤسسات العامة، وتنويع القاعدة الإنتاجية بعيدًا عن الاقتصاد الريعي، وضمان حماية الشرائح الاجتماعية الضعيفة من آثار الإصلاحات.

إن بناء اقتصاد ليبي عادل ومستقر يتطلب إشراك جميع الأطراف، من مؤسسات الدولة إلى القطاع الخاص والمجتمع المدني، في صياغة سياسات تضمن توزيعًا عادلًا للثروات والأعباء، وتعيد الثقة بين المواطن والدولة، وتفتح آفاقًا جديدة للتنمية بعيدًا عن الصراعات والمصالح الضيقة.

زر الذهاب إلى الأعلى