مقالات الرأي

الحوار والهوية والوعي الأخلاقي 

بقلم/ المهدي الفهري 

العلاقة بين الإنسان والتاريخ لا تقوم على قوانين جامدة، بل تقوم على مدى قدرتها على تفكيك هذه القوانين وعلى التفاعل الحي القادر على توليد معارف جديدة، حيث يرتبط الوعي الإنساني بالسلوك ويتداخل مع التجربة التاريخية بشكل عضوي، وتُعد الأصول المنهجية للسلوك الإنساني نتاجًا وحصيلة للتجربة الحياتية العميقة والفهم المتزن للواقع، فالوجود الزمني لا يمكن عزله عن مكونات المعرفة والوعي الذاتي، وكل سلوك اجتماعي سليم يستمد شرعيته من مرجعية معرفية وأخلاقية، وتتولى فيه الأخلاق دور المعيار الثابت والبائن للشرعية الاجتماعية.

وأمام التحولات المعاصرة التي يعيشها العالم تبرز الحاجة المُلحة إلى إعادة النظر في المفاهيم التي تحكم العلاقة بين الأفراد وبين الذات والآخر، حيث لا يمكن للإنسان أن يتجاوز أزمات الواقع دون الاتكاء والاتكال على منظومة معرفية وأخلاقية متماسكة تُعيد ترتيب أولويات الحياة وتؤسس لمسارات جديدة في التفكير والتفاعل وتقدم نموذجًا راقيًا للحوار يسهم في بناء جسور تواصل فعالة بين الثقافات المختلفة تكون قائمة على نبذ الخلافات واحترام الرأي الآخر والبحث عن نقاط الالتقاء والتقارب.

ويأتي الحوار الهادف كخيار حضاري وإنساني للتعامل بين الأمم والشعوب وبين المثقفين وحافز جوهري لإرساء السلام القائم على الحكمة باعتبارها الأداة الفعالة والأقل كلفة وذات التأثير البالغ في مسار الحوارات والمجتمعات، وفي الوقت الذي يمثل فيه الاطلاع على تجارب الآخرين مصدرًا ثريًّا لاكتساب المهارات والخبرات وتطوير الكفاءات الذاتية فهو يعزز الشعور بالثقة والرضاء الذاتي والإنجاز ويمنح الأفراد متعة ونشوة، ويمكنهم من التعاطي بمرونة مع المتغيرات المعاصرة عبر هذه العملية لتفعيل الطاقات الإبداعية وتأسيس قواعد معرفية تفتح آفاقًا جديدة نحو التقدم والحداثة ما يسهم في صياغة سياقات اكثر نضجًا للتنمية الذاتية والمجتمعية وعبر أنساق اجتماعية أخلاقية يمكن من خلالها إعادة التصورات الثقافية بما يجعل من الثقافة نسقًا حاكمًا للعلاقات الاجتماعية ونشر المعرفة ورافعة أساسية للوعي العام وصناعة المحتوى الثقافي الإنساني في السباق المادي والمعنوي.

إن عجز المجتمعات عن التعبير عن هويتها الذاتية يتيح الفرصة للآخرين لصياغتها وفقًا لأهوائهم ومصالحهم، وهذا العجز يشكل تهديدًا للسلطة الرمزية للمجتمع، ويفتح المجال أمام فرض نماذج مغايرة تحدُّ من دوره في المشهد الاجتماعي، لذلك فإن استعادة صوت الهوية والقدرة على التعبير الذاتي ضرورة من ضرورات الوجود الثقافي والاجتماعي الفاعل، ولا يمكن لأي بنية اجتماعية أن تكتسب شرعيتها ما لم تستند إلى نسق أخلاقي راسخ، فليس كل موجود يمتلك شرعية الوجود، ومجرد وجود الشيء لا يعني بالضرورة امتلاكه للشرعية، بل تتجسد هذه الشرعية من خلال قدرتها على إنتاج خطاب أخلاقي يؤثر في فلسفة العلاقات الاجتماعية ويخلق توازنا بين الدلالات المادية للحياة والأبعاد الفكرية التي ترسم الملامح الفلسفية للإنسان والمجتمع.

وتحدد مسارات الفعل الإنساني وبناء المجتمعات لا يقوم على التراكم الكمي للمعرفة فقط، بل على مدى قدرتها على نقل تلك المعرفة إلى وعي وسلوك وأخلاق ويشكل الحوار والهوية والمهارات والأخلاق المرتكزات الأساسية لإنتاج إنسان فاعل ومجتمع حي قادرًا على التجدد والمساهمة في الحضارة الإنسانية بما يمكن أن يضيف إليها وليس بما يمتلك أو بما يتحصل عليه من امتيازات وهكذا تصبح الحضارة ثمرة لتراكمات الإبداع الفكري والجمعي المشروط بالمسؤولية والوعي الأخلاقي.

زر الذهاب إلى الأعلى