مقالات الرأي

أفول الهيمنة الأمريكية

بقلم/ محمد بوخروبة

منذ بداية تأسيس الإمبراطوريات، ساد ما كان معروفًا بحق الفتح، حيث تتوسع الممتلكات وتنكمش بناء على قوة الإمبراطورية، والحرب هي العنصر الحاسم في تقرير من هو الأقوى، وفي ظل ذلك الواقع، لم تتجسد مفاهيم السيادة والاستقلال وحق تقرير المصير، وكانت الحصة الأكبر من تلك الحروب، من نصيب القارة الأوروبية، حيث يقدر بعض المؤرخين فترات اشتعالها بما يقرب من السبعمائة عام.

يجمع المؤرخون، على أن اتفاقيتي وستفاليا، أنهتا حربًا استمرت ثلاثين عامًا، في الإمبراطورية الرومانية المقدسة، ورسمت حدود ألمانيا، لما قبل الحرب العالمية الأولى. وقد أرست تلك الاتفاقية، مبدأ سيادة الدول بالعصر الحديث، وفي العقد الثاني من القرن الماضي، أعلن الرئيس الأمريكي، ويدرو ويلسون، مبادئه الأربعة عشر، المعروفة بالإعلان العالمي، لحقوق الإنسان، الذي اعتبر الاستعمار عملًا مقيتًا، وغير أخلاقي، وطالب بحق تقرير المصير للشعوب، ولكنه من جهة أخرى، أقر مفاهيم جديدة للاستعمار التقليدي، عبَّر عنها بالوصاية والحماية والانتداب، كما رحب بوعد بلفور عام 1917، الذي وعد بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، لكن الخروج الحقيقي للولايات المتحدة، إلى القارات القديمة، قد تم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، في مسعى حثيث لإزاحة الاستعمار التقليدي، والحلول محله، في صيغة مغايرة، عرفت بالاستعمار الجديد، حيث الهيمنة في الأساس اقتصادية، وليست عسكرية، لكن من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، الفصل بين الاقتصادي والعسكري، فكل مشروع اقتصادي بحاجة إلى فعل عسكري يحميه، وهكذا وجدت الإدارات الأمريكية المتعاقبة نفسها متورطة، في بناء قواعد عسكرية، ببلدان العالم الثالث، ومنهمكة في حروب، قادت إليها مناخات الحرب الباردة، بين العملاقين، الأمريكي والسوفييتي، ولعل الأبرز بين تلك الحروب، الحرب الكورية، والحرب في الهند الصينية، والصراع العربي – الإسرائيلي.

واقع الحال، أن انهيار الإمبراطوريات القديمة، ونجاح سياسة الإزاحة، التي اعتمدتها الولايات المتحدة، بحق حلفائها، تعيدنا إلى نظرية العلامة عبدالرحمن بن خلدون، حيث تبدأ الأمم بتأسيس كياناتها بحالة مواجهة مستمرة وساخنة، وأن الكيانات الجديدة، تقوم على أنقاض كيانات سابقة، لقد تصرفت الولايات المتحدة، كإمبراطورية، لا تضاهى في قوتها، وأكدت ما هو مطلوب منها، تجاه حلفائها، هذا السلوك، كلف الخزينة الأمريكية، أموالا هائلة، ولكن ذلك لم يكن منه مناص، طالما أن أمريكا، تريد الاستمرار كقوة عظمى بأوروبا الغربية، في مواجهة غريمها الاتحاد السوفييتي.

الأزمة الاقتصادية الأمريكية الراهنة، بدأت منذ أكثر من ثلاثة عقود، تجسدها بوضوح، أعداد العاطلين عن العمل، والفاقدين للسكن، والذين يقدر تعدادهم بأكثر من عشرة ملايين من البشر، كما تجسدها الشيكات التي تدفعها الحكومة الفيدرالية، لموظفيها، والتي يتم صرفها، من غير تغطية لها، على أساس وعود مفتوحة بدفع قيمتها لاحقًا للبنوك المحلية. ولا تزال الذاكرة، تحتفظ بأزمة الرهن العقاري، الشهيرة، التي تسببت في أزمة اقتصادية عالمية حادة.

الرئيس الحالي، دونالد ترامب، في إجراءاته الضريبية الداخلية، وأيضا في موقفه تجاه حلفاء بلاده بالقارة الأوروبية، يجسد واقعية سياسية. فهو يدرك بوضوح، أن بلاده لم تعد في وضع يسمح لها، بمواصلة دورها الإمبراطوري، وأن الوقت قد حان لمواجهة الحقيقة. صحيح أن السلوك الأرعن، والتصريحات الصاخبة، التي يطلقها، مقززة لحلفائه، وأيضا لمواطنيه العاديين، الذين سيكونون في النهاية أولى ضحايا إجراءاته الضريبية القاسية، يضاف إلى ذلك، ما سينتح عن إجراءاته الضريبية، تجاه دول العالم، وبشكل خاص بحق الصين الشعبية، التي تهيمن بجدارة وذكاء حاد على الأسواق العالمية، إن ذلك ستكون له نتائج سلبية مباشرة على المواطنين الأمريكيين، الذين توفر لهم الصين بضائع وصناعات باهرة، رخيصة الأثمان.

خلاصة القول، إن الولايات المتحدة، تمر الآن بأزمة اقتصادية حادة، ولم تعد بعد الآن، القوة الاقتصادية العظمى، في العالم. والصين الشعبية، التي تغزو ببضائعها الأسواق العالمية، بشكل غير مسبوق في التاريخ، تدرك أن حماية اقتصادها يتطلب في المحصلة، بناء قوة عسكرية، قادرة على تأمين مصالحها في العالم، وستثبت قدرتها في التفوق العسكري، كما في التفوق الاقتصادي. وليشهد العالم بأسره، نهاية إمبراطورية، وبروز أخرى، على أنقاضها، وذلك هو قانون الدورة التاريخية.

زر الذهاب إلى الأعلى