الفساد وجه آخر للاحتلال
بقلم/ ناجي إبراهيم
تشرشل رئيس الحكومة البريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية وعقب الهجوم الألماني على العاصمة البريطانية لندن وتدميرها مع مدن بريطانية أخرى وعندما أبلغ بالأمر طرح سؤالًا واحدًا على مخبرية “هل القضاء بخير؟! وكانت الإجابة: نعم، قال: لن نهزم”.
في أي بلد مهما كانت قوة مؤسساته إذا انهار القضاء أو تخلى عن أدواره في فرض القانون والنظام وحماية الحقوق سيتبعه انهيار تام وكامل في كل المجتمع وسيتبعه فشل الدولة في حماية باقي المؤسسات وعدم قدرتها على توفير الحماية لمواطنيها الذين سيتحولون إلى رعاية وخدم عند القوى التي ستظهر يدفعها الجشع والطمع وتتمكن من الثروة بكل السبل وكلها غير مشروعة، والتي ستمكنها من خلق شبكة من العلاقات والارتباطات في الداخل والخارج لحماية امتيازاتها وأنشطتها، وستجد قوى تتقاطع مع مصالحها تدعم تغولها وتوفر لها مزيدًا من الثراء، وخلق اقتصاد مشوه مبني على المضاربة والنهب والسرقة يتغدى على الفساد ويستقطب الفاسدين، وتنمو لوبيات مرتبطة بهم ناتجة عن تبادل المنفعة والتصدي لأي قوى معادية للفساد وضربها في مهدها، لتقيم سورًا حديديًا بين الشعوب وثرواتها، من خلال تمكين الفاسدين من مؤسسات صنع القرار، وهذا ليس جديدًا بل هو نتاج للفكر الرأسمالي، الذي يسمح باحتكار وتكديس الثروات في يد القلة بجميع السبل تطبيقا لمقولة (دعه يعمل، دعه يمر) واتساقا مع ميكافيلية (الغاية تبرر الوسيلة) حتى الوسائل الأكثر قذارة ومن هذه الوسائل السطو على ثروات الشعوب وقرصنتها تحت حجج وأكاذيب ومبررات تخفي الأهداف والغايات الحقيقية.
الأوضاع في ليبيا بعد عام 2011 تسير في هذا المنعطف الخطير الذي يصعب الخروج منه بسهولة، وسيقودنا إلى أوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية لا يمكن التكهن بها أو تصورها ولا تخطر على بال أكبر المتخصصين في الشؤون الاجتماعية والاقتصادية، بعد أن تمكن من مؤسسات الدولة تحالف الفساد والمضاربين، وتجار الأزمات يشجعه فشل الدولة عن القيام بأدوارها الاقتصادية والاجتماعية، وجهاز قضائي خاضع وخانع وقضاة طبعوا مع الفاسدين وصاروا ملاذا لهم لشرعنة سرقة المال العام.
لا يعتقد أحد أن ما جرى في العراق بعد 2003 وفي ليبيا عقب 2011 كان نتيجة حتمية لسقوط النظام والتحول لاقتصاد السوق الذي يحمل هذه الأمراض، وما نراه من أعراض وتشوهات مرتبطة بالانفتاح على نظام السوق، علينا تقبلها والتعايش معها ولفترة انتقالية محدودة لضرورات تبيح محظورات ما نشهده ونعيشه من فساد ومضاربة في سعر الدينار، وسيعقبها مرحلة ينتهي فيها الفساد ويتعافى فيها الدينار من نزلة البرد التي يمر بها، وسيدخل في مرحلة حضانة يخرج منها سليمًا معافى.
إن ذلك هو ترجمة لواقع لا يخبرنا أن التعافي قريب وأن أبواب الفساد تضيق ما يجعلنا ومن تجربة العراق الماثلة أمامنا، أن ندق ناقوس الخطر قبل أن يشتعل الوضع الاجتماعي ويتدنى دخل الفرد للحد الذي لا يستطيع الحصول على الخبز ونتحول إلى متسولين على أرصفة الغرب، وتذهب أموال الفاسدين للخزانة الأمريكية تحت دعاوى غسيل الأموال وذلك ما حدث للأموال التي نهبتها مافيات الفساد في العراق، وتحويله إلى متسول على أبواب صندوق النقد الدولي ويتسول الكهرباء من إيران، إذا سمحت له العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران.
والفساد في ليبيا ليس سرًّا ولا يجري تحت الطاولة أو في الغرف المظلمة، بل يظهر سافرًا وبواحًا وفوق الأرصفة، وبورصة سوق المشير أكبر تعبير وإعلان عنه، وتنشر بعضا منه تقارير ديوان المحاسبة، غير أنه يخفي بعضها الآخر حتى لا يفضح ارتباطاته به، وعلى عينك يا تاجر وأمام مرأى ومسمع القضاء والنائب العام، وتصريحات على أفواه بعض من يتولون الشأن العام، واتهامات واتهامات مضادة، هذا غير الفساد الذي تديره الحكومتان وقبلها حكومات سابقة، وكلٌّ يحاول أن يرمي الآخر بالمسؤولية عن هذا التدهور والانهيارات التي شملت كل شيء، ما يهدد الأجيال القادمة في قيمها ويجعلها تطبع مع الفساد ويخلق تشوهًا قيميًّا بتنا نراه في اتساع شريحة (اللقاقة والطبالة)، الأمر يصبح خطيرًا عندما يتم التعايش مع هذه الظواهر وتصبح غاية وجب بلوغها، ولا نستبعد بل من المؤكد أن الأمر مدبر ومخطط له لغاية في نفس يعقوب، مدير بنك روتشيلد وخدمه من قادة المشروع الاستعماري، وإذا ما ربطنا ذلك مع هذه الحرب التجارية والاقتصادية التي تعلنها أمريكا على العالم مع تولي ترامب لإدارة البيت الأبيض، وكل السوابق التاريخية والحروب التي خاضتها الدول الاستعمارية ضد دول العالم من أجل الاستحواذ على مصادر الثروات وتوسيع أسواقها لتشمل العالم كله وتحويلنا إلى مستهلكين مطيعين ونشطب (طز) من قواميسنا.