مقالات الرأي

ما الإنسان؟ المداخلة الثالثة عشرةَ: في الجملة (1)

بقلم/ مهدي أمبيرش

في المدخلات السابقة، وإن كان البعض لم ينتبه، حاولنا أن نقدم مقاربات ضمن مشروع لفلسفة اللسان العربي، التي فرقنا فيها بين الفلسفة باعتبارها منهج تفكير يفتحنا على فضاء مشروعٍ لتلمس الحقيقة، والتي قلنا إنها العلم الماهوي الذي نقاربه من خلال السؤال لا الاستفهام أو الوجود بما هو وجود مطلق لا يمكن أن نقدم له تعريفًا، خاصةً أن الإنسان محدود القدرة، وأن آدم عليه السلام وزوجه عندما حاولا إدراك المطلق، أي الخلد والملك الذي لا يبلى، واختيار الوسيلة، الشجرة، كانت النتيجة أن تعريا وانكشفا أمام بعضهما، ثم كان الهبوط الذي لم ينقذهما منه، إلا تلقِّي الكلمات.

وقد ذكرنا أن الكلمة ليست اللفظ، ولكنها المشيئة والإرادة، فهذه الكلمات هي التي طهرتهما من خطأ العصيان والنسيان، ومن ثم نبهنا إلى أهمية الكلمة، وقلنا إن الله تعالى خلق الكون بكلمة، وخلق عيسى عليه السلام بكلمة، وأن هذه الكلمة كانت (كن فيكون)، وقلنا إن الكينونة هي مرحلة ما بعد الوجود، وأن الوجود علم عند الله، وإن كان عدمًا عند الإنسان، وذكرنا أن العدم غياب الوجود مثلما قلنا في أسماء المعاني، إن القبح ليس ضد الجمال، بل غياب الجمال مثلما العدم، فنحن لا نقول بالجمال إذا لم نقبل بالعدم، وهكذا حاولنا أن نفرق بين (إن) وتمظهراتها في توكيد الموجود من الوجود حتى عند الإنسان، أي إذا قلنا إن فلانًا في المسجد مثلًا، فإنه كان موجودًا قبل ذلك، وسوف يتواجد بعد ذلك، في حين أن الكينونة تتقدم عند الوجود كما فصَّلنا في تناولنا (كان) وتمظهراتها، التي يقول القواعديون إن لها أخواتها، فإذا ذكرنا هذا التعريف المنطقي، كان ذلك مدعاة للسخرية، إذ كيف يكون لكان أخوات دون أن نعرف من هو أبوهنَّ وأمهنَّ، ولهذا قلنا تلافيا لهذا القصور، وتجاوزًا لتمظهرات (إن، وكان)، إنها تحيلنا على الوجود، أي بدل القول بإن وأخواتها أو كان وأخواتها ولارتباطها بالموجود فإن الأب لهنَّ جميعًا، هو الوجود المطلق أو الماهوي، وأن التمظهرات هي الموجود من الوجود، أي الموجود بالذي هو موجود.

كما ذكرنا في العلاقة بين الإنسان وأطوار الخلق، والجملة العربية، أن الجملة حالة تكوُّن أو التخَلُّق، وأن مفهوم الجملة يأتي من الجملة كلها التامة، ولأنها تامة فإنها تعطي مفهومًا، وهنا نذكر بالذي سبق أن طرحناه بأن العلاقة بين الحروف في العربية هي علاقة خلايا حية متحركة في الذهن، وأن ما يسمى بتشكيل الألفاظ في الإشارات الإعرابية إنما تدلنا الإشارات إلى علامات كما تدلنا العلامات إلى العمليات التي تجري في الذهن، ولهذا نبهنا إلى أن الإعراب الوصفي الذي يعلَّم في المدارس هو تحصيل الحاصل، لأنه لا يقدم شيئًا، وأن مشروعنا في إصلاح البيان العربي، هو العودة إلى منهج التفكير العربي وإلى العمليات التي تتم في الذهن، حتى إننا قلنا في جملة جاء محمد لا يكفي فيها القول إن جاء فعل ماض مبني على الفتح، وإن محمدًا فاعل، بل نحتاج إلى فريق من الأطباء والمختصين سواءً في خلايا المخ والحركات أي دراسة الحركات فيزيائيًا وكيميائيًا وكذلك الأعصاب والدراسة الفسيولوجية لوظائف الأعضاء، فالعملية هنا ستفتحنا على مشروع كبير لدراسة هذه العمليات إضافةً إلى الإرادة والفعل والجوانب النفسية، وهو ما جعلنا نقول إن الكلمة ليست اللفظ، كاللغات الأجنبية التي تدرس اللغة من خلال الأصوات في المعامل من حيث القوة والضعف، لأننا ذكرنا أن اللغات الأجنبية خاضعة للمنطق الذري الفيزيائي، وأن العربية وإن كان فيها بعض الفيزيائي إلا أنها تتقدم إلى القانون الحيوي، ثم تتقدم خطوةً أعلى إلى الروح.

زر الذهاب إلى الأعلى