سلطات الضبط الإداري في الظروف الاستثنائية وحدودها

بقلم/ غادة الصيد
إن وسائل تدخل الإدارة متعددة للتصدي عندما يُعد المرض جائحة ووباءً منتشرًا، وذلك بإصدار حزمة من الإجراءات التي من شأنها الحد من سرعة انتشاره، كمنع السفر والتنقل، أو منع دخول المحال العامة إلا بقيود محددة، وانتهاءً إلى حظر التجول وتقليص ساعات العمل، وأخيرًا فرض اللقاح الواقي من المرض.
ويتم تدخل الإدارة اللازم والضروري في هذه الحالات عبر إصدار لوائح وقرارات وفرض قيود وإجراءات غير مألوفة في الظروف العادية، علاوة على تفعيل الإدارة لقوانين الطوارئ الصحية.
وفي ليبيا، فإن التشريعات الصحية الليبية أفردت فصلًا خاصًّا بالأمراض الوبائية ووسائل مقاومتها، تضمنه القانون رقم (106) لسنة 1973 ولائحته التنفيذية الصادرة عام 1975، حيث تضمن القانون بيانًا بالأمراض الوبائية ووسائل مقاومتها والحد منها. وقد أجازت المادة (33) من القانون لوزير الصحة إصدار القرارات واللوائح اللازمة للعزل والمراقبة وشروط دخول السلع والأفراد، كما أجازت المادة (38) للإدارة الاستيلاء على المستشفيات والمؤسسات العلاجية لإدارة ملف الوباء، وأجازت لها مراقبة الوسائل واتخاذ كافة ما يلزم لمواجهة الوباء وآثاره.
وقد استعملت الإدارة الليبية، ممثلة في الحكومة، هذه الإمكانيات القانونية، حيث فُرض حظر التجول الكلي ثم الجزئي، ومُنِع السفر، وتم تحديد ساعات الدوام الرسمي. وكانت معظم دول العالم قد اتخذت على المستوى المحلي إجراءات مشابهة. وقد أصدر المجلس الأعلى للقضاء في ليبيا عدة قرارات لمواجهة انتشار الوباء، باعتبار أن ساحات العدالة أماكن تجمّع عامة، فأصدر القرار رقم (35) لسنة 2020 بفرض الإغلاق الكامل للنيابات والمحاكم، وقصر المحاكمات على نظام المناوبة والعمل عن بُعد، ثم خُفّفت هذه القيود تدريجيًا.
وعليه، فإن الإدارة، وعند تدخلها بإصدار الإجراءات باستخدام الوسائل القانونية في الضبط الإداري، كانت تستند إلى حالة المشروعية الاستثنائية التي فرضها وجود وباء خطير سريع الانتشار، ومصدرها القواعد القانونية التي تتضمنها الدساتير والقوانين الصحية. وكانت هذه الوسائل لازمة وضرورية للحد من سرعة انتشار المرض.
وقد اتفق الفقه والقضاء على حق الإدارة في التدخل عبر وسائل متعددة، منها لوائح الضبط الإداري الصحي، في حالات الطوارئ والظروف الاستثنائية، معتبرين أن الأوبئة حالة استثنائية طارئة تستلزم تدخل الدولة لحماية الناس. وكافة الوسائل التي تستعملها الإدارة، وإن كانت غير مألوفة في الظروف العادية لكونها تحد من الحريات العامة للأفراد، إلا أنها إجراءات ضرورية لدرء الخطر المحدق بالبلاد وشعبها من كارثة الوباء، ومن ثم جاءت هذه المشروعية لتصرفات الإدارة.
ومن المعلوم أن هذه الإجراءات والتصرفات لن تكون بمنأى عن رقابة القضاء، فإن تجاوزت تلك الإجراءات الحد اللازم للمواجهة، عدّت إجراءات غير مشروعة. كما أن هذه الإجراءات مؤقتة، تزول بزوال السبب.
إذا نستطيع القول إن شروط تدخل الإدارة هي: أن يحدث أمر جلل وخطير يضر بالبلاد، أن يكون تدخل الإدارة لازمًا وضروريًا لدرء الخطر، أن يكون تدخل الإدارة عبر الوسائل المشروعة قانونًا، وفي ظل القيود الدستورية والقانونية، أن يكون التدخل مؤقتًا، وأن يكون تدخل الإدارة محاطًا بضمانة المراجعة القضائية.
فإذا ما توفرت تلك الشروط، كان للإدارة أن تتدخل وفقًا للوسائل المتاحة قانونًا، وإذا كان المقرر أنه من حق الإدارة اتخاذ كل ما هو ضروري ولازم لحماية الناس ومواجهة الظروف الطارئة، وكان القصد من ذلك حماية الدولة ومواطنيها في أرواحهم وأموالهم، وكانت القوانين والدساتير تبيح للإدارة هذا التدخل اللازم، فإن وباء كوفيد-19، الذي اجتاح العالم، فرض تدخل الدول للحد من الحقوق والحريات.
وقد لقي هذا التدخل معارضة من بعض الأفراد، دفعهم للجوء إلى القضاء للحد من سلطات الإدارة وتعسفها. وإذا كان من المقرر أن القضاء منوط به حماية الحريات الأساسية، فإن عليه التحقق من جسامة الاعتداء الإداري، وعما إذا كان مبررًا أم لا.
ومن المعلوم أن مفهوم الحريات الأساسية يختلف من دولة إلى أخرى، كما أن مسألة جسامة الاعتداء تُقدّر من قبل قاضي الموضوع، مع مراعاة كافة الاعتبارات التي أدت إلى إصدار الإدارة لأوامرها، ومراعاة قواعد الفقه والقضاء التي استقرت على تحديد حالات تدخل الإدارة في الظروف الاستثنائية وحدود هذا التدخل ومبرراته.
إن تجاوز الإدارة لحدودها في التصدي للظروف الطارئة هو مسألة يُبحثها القاضي، وله أن يقرر الجزاء والتعويض المناسب لكل من تضرر.
وكما ذكرنا سابقًا، فإن رقابة القضاء في كثير من الدول قد تصدت لتجاوزات الإدارات في معالجة الوباء، وكذلك في تقصيرها في المواجهة. وقد قرر القضاء حق الدول في فرض ما يلزم من قيود لمواجهة الوباء، واعتبر أن ذلك مسألة تقديرية للإدارة، لكنها ليست بمنأى عن المراقبة القضائية.
وبالمناسبة، لم يُعرض على القضاء الليبي أي طلب يتعلق بتجاوزات السلطات الليبية في مجال مواجهتها لوباء كورونا، لأن تلك الإجراءات اتسمت بالمرونة، وصدرت دون تجاوز.