السيولة الهاربة والثقة الغائبة.. قراءة في قرار سحب فئة الخمسين دينارًا
بقلم/ عثمان الدعيكي
أصدر مصرف ليبيا المركزي مؤخرًا قرارًا يقضي بسحب فئة الخمسين دينارًا من التداول، في خطوة تهدف إلى كبح جماح التزوير وتقليص حجم الكتلة النقدية الكبيرة المتداولة، لكن الأهم من ذلك هو أن القرار يأتي في محاولة لوقف التدهور المستمر لقيمة الدينار الليبي، الذي يعاني منذ سنوات ضغوطًا متزايدة نتيجة الفوضى الاقتصادية والنقدية وغياب الثقة في النظام المصرفي.
يُقدَّر إجمالي السيولة المتداولة المتاحة بداخل النظام المصرفي وخارجه بما يزيد على 130 مليار دينار، وهذا الرقم ضخم مقارنة بحجم السوق الليبي الذي لا يستوعب ثلث هذا المبلغ، كما أن ما يوجد فعليًّا داخل القطاع المصرفي لا يتجاوز 20% منه، في حين تبقى النسبة الأكبر، أي نحو 80%، متداولة بين أيدي المواطنين وخارج الرقابة الرسمية. هذا الواقع يعكس أزمة ثقة متفاقمة بين المواطن والمصارف، ويكشف عمق الانفصال بين السياسة النقدية والمشهد الاقتصادي الحقيقي على الأرض.
مع غياب أدوات مصرفية فعَّالة ومنتجات ادخارية واستثمارية جاذبة، بات المواطن يفضل الاكتناز النقدي على التعامل مع البنوك، التي تحوَّلت في نظر كثيرين إلى خزائن معطَّلة لا تقدم حوافز ولا تتيح الوصول السلس إلى الأموال. هذا السلوك الجماعي ساهم في تضخيم حجم السيولة خارج المنظومة الرسمية، وأدى إلى تفاقم التضخم وارتفاع الضغط على سوق العملات الأجنبية، وهو ما انعكس سلبًا على سعر صرف الدينار وقيمته الشرائية.
قرار سحب فئة الخمسين دينارًا في هذا السياق قد يكون خطوة ذات بعد تقني وتنظيمي، لكنه من دون إجراءات مرافقة، قد لا يحقق الأثر المرجو منه. فالسحب وحده لا يكفي لضبط السيولة أو معالجة التشوهات النقدية، ما لم يُعزَّز بسياسات واضحة لاستيعاب السيولة داخل المصارف وإعادة تدويرها في الاقتصاد عبر آليات ائتمانية وتمويلية ذكية.
أشار المصرف المركزي إلى أن الهدف من القرار أيضًا هو الحد من استخدام الفئة الكبيرة في المضاربة والسوق الموازية، التي تنشط خارج نطاق الرقابة، وتساهم في إضعاف العملة الوطنية. لكن هذا الهدف لا يمكن تحقيقه فعليًّا دون مسارات موازية لإصلاح البيئة الاقتصادية، تبدأ بتفعيل منظومة الدفع الإلكتروني، وتنظيم السوق، وتشجيع الاستثمار، مرورًا بإعادة هيكلة أدوات التمويل المصرفي وتحفيز القطاع الخاص على العودة إلى النشاط.
إن غياب الثقة في النظام المصرفي يمثل جوهر المشكلة. فطالما لا توجد أدوات مالية تمنح المواطن عائدًا مقنعًا أو تسهيلات حقيقية، ستظل الأموال خارج المصارف، وستبقى أي إجراءات تتعلق بسحب أو طباعة أو تغيير فئات العملة مجرد حلول مؤقتة وجزئية. المطلوب هو إصلاح شامل يعيد إلى المصارف التجارية دورها في تمويل التنمية، ويفتح المجال أمام المشروعات الصغرى والمتوسطة، ويوفر أدوات آمنة وشفافة لجذب السيولة.
وفي ظل استمرار تدهور الدينار، لا بد من التفكير أيضًا في حلول نقدية أوسع، مثل إعادة النظر في ربط الدينار بسلة عملات بدلًا من الاعتماد الأحادي على الدولار، وتقوية الاحتياطيات الأجنبية، وإعادة هيكلة ميزان المدفوعات عبر تحفيز الإنتاج المحلي وضبط الواردات، وتقنين الإنفاق الحكومي، وتفعيل المؤسسات الرقابية.
في نهاية المطاف، فإن قرار سحب فئة الخمسين دينارًا لن يكون له الأثر الإيجابي المأمول ما لم يُوضع ضمن خطة إصلاح اقتصادي متكاملة، تعيد ترتيب العلاقة بين المواطن والمصرف، وتحوّل السيولة المعطَّلة إلى قوة فاعلة في عجلة الاقتصاد، وتضع أساسًا حقيقيًّا لاستقرار الدينار واستعادة الثقة في العملة الوطنية.