يتبع.. بنغازي
بقلم/ عفاف الفرجاني
حدث وركبت الطائرة في قرار سريع وفُجائي من القاهرة إلى ليبيا. هذه المرة الأولى التي أقصد فيها مدينة بنغازي.. هذه الزيارة هي الأولى للمدينة بشكل خاص، ودخول أرض الوطن بعد رحلة تهجير قسري لا تزال مستمرة.
دخولي إلى بنغازي كان دائمًا مؤجلًا على أمل الدخول إلى العاصمة طرابلس أولا مرفوعة الهامة، هي مدينتي التي حُرِمت منها قسرًا، لكن طال الحلم، وضاق الصدر، وأنهكني الاشتياق، فكانت بنغازي الحاضرة بعد خذلان مدينتي لي، وخذلاني لها.. أنا لست استثناءً، كلنا نتقاسم جُرح التخلي.
منذ واجهت هذه المدينة حربها مع “الظلاميين” عام 2014، صنعت لنا ملحمة وطنية من النضال والجهاد.. أنا مولعة بشجاعة هذه المدينة، رغم أن هذه الحرب أسفرت بعد مواجهات دامت قرابة ثلاثة أعوام، جراحًا وأضرارًا في الأرواح والممتلكات.
في طريقي، شردتُ باحثة عن آثار الحرب، عن الدمار، رسمت صورة للمدينة لم تكن واضحة المعالم، بل صورة سريالية لأحداث ومشاعر مختلطة، تدخلت عندها صديقتي، بنت إحدى العوائل الصامدة في بنغازي، التي جاءت معي على متن الرحلة نفسها: “لا تبحثي عن بقايا الدمار، نحن نبذل جهدًا لمسح هذه الذاكرة من جدران المباني، نجحنا، ولكن الصعوبة في محوها من ذاكرة القلب…”.
“ذاكرة الهواري حاضرة، وذاكرة سيدي فرج، وذاكرة البوابة الجنوبية الغربية، ومصنع الأسمنت.. وغيرها”.
بنغازي اليوم تُخجلني بصمودها وصمود أهلها وأبناء القوات المسلحة البواسل، بعد أن خطت خطوات واسعة نحو بسط الأمن والاستقرار.
هذه المدينة استطاعت اليوم أن تكون ذات قيمة محلية وإقليمية ودولية، الكل يسعى إلى توأمتها في شتى المجالات.
من غربتي، رسمت ملامح لهذه المدينة العصية، فهي تشبه فلسطين في نضالها، وبغداد في منارتها، وتحدي اليمن لأعدائه، وعُمان في هدوئها.. هذه المدينة عندما تحضر، يحضر الفرح.
عندما حطت بنا طائرة “مصر للطيران” في مطار بنينا، هذا المطار الذي شهد دمار المدينة كونه كان ضمن مناطق اشتباك القوات المسلحة مع الإرهابيين عام 2014، واستمر مغلقًا قرابة ثلاث سنوات حتى تحرير البلاد وصيانته، كان الفرح هو الشعور الطاغي.
دخلت المطار، كان صغيرًا وبسيطًا للغاية، ولكنه كان محكمًا أمنيًّا.. عندما سألني ضابط الجوازات: “عفاف، لا تملكين رقمًا آليًّا؟ ولا ختم خروج من ليبيا! من أين صدر جواز سفرك؟”.. تنهدت حينها وقلت في داخلي:
“لو أن هناك من هو ليبي، فهو أنا.. أنا من دفعت ثمن موقفي إقصاءً وتهجيرًا.. أنا من استُبعدت من مدينتي جراء موقفي الوطني.
أنا التي حاربت الإرهاب بقلمي وصوتي.
تبًّا لتلك الحدود الوهمية التي صنعها استعمار الأمس لينفذ وصيته أهلي اليوم، ويسأل عن حبر وختم في صفحات جواز سفري ويحتجزه”.
ذاك الضابط، الذي عرفني من خلال شاشات التلفزيون وصفحات الفيسبوك وجرائد الأخبار الإلكترونية، احتفى بي حتى أخجلني، ولكنه لا يملك القرار.
لا أخفيكم، تركت جوازي في أدراج مكاتب المطار، شغفًا وولعًا بالحبيبة بلادي، وقلت: “لن يفسد فرحتي ذاك الختم الملعون”.
فعلتها ودخلت بلادي، يا له من شعور!
بحثت عن الدبابات، عن المقرات، عن الجنود… إلخ.. تلك الصورة النمطية لتداعيات الحرب في أي مكان من العالم، فمخلفات الحرب واحدة.
وحدهم وجدت رجال المرور ودوريات الشرطة ينظمون الحياة في الشوارع والميادين.. ساعتي البيولوجية بدأت في التناقص، وقلبي يخفق للقاء، لحظات لا تُؤجَّل.. دخلت وسط المدينة بعد أن خلعتُ ثوب الحزن بعد ثلاثة عشر عامًا من الغربة، لأرتدي ثوب الأمل، ثوب الفرح..
لتبدأ الرحلة… يتبع.