مقالات الرأي

الأعمال المترجمة ولعبة الحظ!

بقلم/ عبد المجيد قاسم

أعمال كثيرة قرأتها مترجمة، في التاريخ، والأدب، وعلم النفس، وغير ذلك من ضروب المعرفة، ورحلت في هذه الكتب كما رحل ابن بطوطة في مجاهل الأرض.

والحقيقة التي ترضي الله أنني لم أكمل كتابًا من تلك الكتب، وهذا الأمر ينطبق على كل الكتب المترجمة التي اقتنيتها عدا ثلاثة كتب على ما أذكر؛ رواية “تحت ظلال الزيزفون”، أو “ماجدولين”، وهي للأديب الفرنسي ألفونس جار، وترجمها المنفلوطي بأسلوبه، ورواية “الشاعر”، وهي كسابقتها من ترجمة المنفلوطي، ومؤلفها هو الأديب أدموند روستان، وعنوانها في الأصل: “سيرانو دي برجراك”، وهو اسم الشخصية المحورية في القصة، والكتاب الأخير هو كتاب “تاريخ ليبيا” لنيكولاي إيليتش بروشن، وترجمة د. عماد حاتم.

ولا أنسى أيضًا رواية “دون كيشوت”، أو “دون كيخوته” كما هو نطقها الصحيح في الإسبانية، وهي قصة غنية عن التعريف، وغير ذلك مما لا أتذكره، والسبب في نجاحي في إكمال الرحلة في تلك الكتب دون غيرها كان أسلوب الترجمة الذي خرجت به هذه الأعمال للقارئ العربي، فالكتب المترجمة لكي تجذب القارئ تحتاج إلى مجهود من المترجم يعادل وربما يفوق المجهود الذي بذله المؤلف الأصلي، لأن المترجم لا يترجم الكلمات فقط، بل يترجم الأفكار، ولأنه يترجم الأفكار فهو يضع لمساته الأدبية كما يتصورها في ذهن المؤلف الأصلي، أي كأنه يقوم بمساعدة المؤلف في نقل الفكرة إلى ثقافة قوم آخرين تختلف عن ثقافته.

وأحسب أن المنفلوطي عندما نقل قصة “تحت ظلال الزيزفون”، وكذلك رواية “الشاعر” إلى العربية كان قد تحرر من قيود عبارات المؤلف بشكل كلي، بعد أن استغرقته مشاعر شخوص الرواية أنفسهم، فأراد أن ينقل ما ارتسم في مخيلته، كأنه هو صاحب الرواية، مع الاحتفاظ طبعًا بأحداثها وخطها الدرامي كما رسمه مؤلفها الأصلي. 

وعن باقي المؤلفات المترجمة التي تركتني قبل أن أتركها، فقد كانت مشكلتي الوحيدة معها أسلوب الترجمة، فهي مترجمة حرفيًا إلى حد التخشب، لذا لم أفهم منها شيئًا برغم تعدد المحاولات؛ فالمترجم بدلًا من إعادة صياغة الكتاب باللغة التي ينقل إليها قام بترجمة المفردات ترجمة معجمية واكتفى بذلك، لذلك كانت العبارات غير متسقة، وثمة عبارات حتمًا لها معنى في لغة المؤلف، لكنها مبهمة في لغتنا، فهي من قبيل التعبيرات.

أذكر عبارة استوقفتني في أحد الكتب، وجعلتني أترك القراءة فيه إلى غير عودة، ومن سوء الحظ أنها كانت في مقدمة الكتاب ربما في الصفحة الرابعة أو الخامسة، والعبارة ترجمة حرفية لعبارة تجري مجرى المثل في لغة الكاتب، لكنها في ثقافتنا لا تعني شيئًا، والعبارة هي: “كل شخص يرتدي بنطالًا عسكريًا ينبغي إنزاله في منطقة منزوعة السلاح”!! والعبارة هنا جاءت على لسان بائع كتب مستعملة.

يعني تخيل أن مترجمًا ينقل من العربية عبارة مثل: “على نفسها جنت براقش”، ويترجمها حرفيًا إلى أية لغة، فحتمًا سيكون الإبهام سيد الموقف، إذن الترجمة عمل متكامل، بل ومنفصل عن العمل المترجم، هي إعادة صياغة للأفكار والأحداث والمشاعر التي يحملها العمل محل الترجمة بلغة أخرى، مع مراعاة الثقافة والتعبيرات المقابلة، وجودة السبك، وجمال العبارة، ورشاقة الألفاظ.

أي أن المترجم، وحتى ينجح في ترجمته للعمل، ينبغي أن يتقمص شخصية المؤلف، وأن يفكر بعقله ويتلبس مشاعره ويترجم ذلك كله بلغة أخرى، فإذا لم ينجح المترجم في الوصول إلى هذه الحالة، فقل على العمل السلام، سيخرج العمل كالجنين المشوه، ولن يكون له رونقه كما هو في ثوبه الأصلي.

ويبدو أن المسألة يلعب الحظ فيها دورًا ملحوظًا، لأن اختيار المترجم ليس بيد الكاتب، فإذا كان العمل محظوظًا فسيقع في يد مترجم يتعامل معه كما يتعامل الصائغ مع سبيكة الذهب، وإذا كان العمل تعيس الحظ فسيقع في يد من يعامله كما يتعامل الفحام مع الألماس، وكثير من الأعمال الناجحة تمت ترجمتها بإشراف كاتبيها، كأعمال الأديب توفيق الحكيم التي نقلت إلى الفرنسية، وكأعمال مالك بن نبي التي كتبها بالفرنسية وترجمت إلى العربية. 

أخيرًا أختم القول بالتأكيد على فكرة قد لا يشاركني فيها بعض الناس، خاصة أمام موجة التغريب التي عمت العالم العربي، وهي أن الأعمال المترجمة إلى العربية أكثر حظًا من الأعمال العربية المترجمة إلى غيرها من اللغات، والسبب مرونة العربية، وسعتها، وكثرة مفرداتها مقارنة بغيرها.

فالأعمال الأجنبية إذا نقلت إلى العربية، وكان الناقل أديبًا أريبًا -كما يقال- فإنها ستحظى باستنساخ يفوق المنسوخ في جماله وبهائه، بينما الأعمال التي كتبت بالعربية، فمهما كان المترجم فصيحًا أمينًا، فلن يكون العمل المترجم كأصله. 

زر الذهاب إلى الأعلى