مقالات الرأي

ما الإنسان؟ المداخلة الثانية عشرة (في الجملة)

بقلم/ مهدي اميبرش

في المداخلات السابقة قمنا بمحاولة مقاربة الإجابة عن السؤال الماهوي، ما الإنسان؟ وربما ظن البعض أن نقدم مدخلات في قواعد اللغة على الرغم من أن السؤال الماهوي، ما الإنسان؟ ليس موضوعًا مفهوميًّا، ذلك أن اللغة وقواعد اللغة، التي قلنا إنها الدليل إلى اللسان الذي يكشف عن منهج التفكير وعن العمليات التي تتم في الذهن، وهي التي تختلف من أمة إلى أخرى، حيث تختلف في مناهج التفكير، وأن اللغة ليست هي اللسان، بل الدليل إلى اللسان وإلى تلكم العمليات، فاللغة والقواعد تأتي موضوعًا للفهم، أي أنها تعطينا مجالًا لاستخدام أساليب الاستفهام المنطقية، أي المدركة أو القابلة للإدراك، من ثَم قد نتعلم لغة قومٍ وقواعد تلك اللغة لا لسان ذلك القوم، أي قد نتعلم اللغة الإنجليزية وقواعد اللغة، لكننا لا يمكن أن نتعلم منهج التفكير الإنجليزي.

وقد يكون بتعلمنا للقواعد التي نتعلم بها قواعد اللغة الأجنبية، نستطيع أن نتحدث عن هذه القواعد أكثر من أصحابها، ذلك أن أصحاب اللغة يستخدمون القواعد دون توصيفها، وهو الذي جعل الأعاجم يؤلفون كتبًا في قواعد اللغة العربية وفي القواميس العربية، ولكنهم عاجزون أن ينفتحوا عن اللسان العربي أو منهج التفكير العربي، وعلى تلكم العمليات التي قلنا إنها تتم في الذهن، ولهذا أشرنا إلى أن الكلمةَ في العربية ليست لفظًا، بل إنها الخلق ومن ثَم الإبداع، أي أنها تكشف عن المشيئة والإرادة، ولله المثل الأعلى، فقد خلق الله الكون بكلمة، وخلق عيسى عليه السلام بكلمة.

في تناولنا لـ (كان)، أن الكينونةَ حالًا متقدمة عن الموجود، ولهذا ذكرنا أن (إنَّ) لا تعبر عن الموجود بالذي هو موجود، بل تؤكد عن الموجودية، وإن إدغام النون التي تدل على الموجودية هو من باب هذا التأكيد، وقد اعتبر دارسو العربية أن (إنَّ) حرف توكيد ونصب، مع أن ( إنَّ) أكثر من حرف، كما لم يوضح لنا المعاجم لماذا وصفوا اسم (إنَّ) بأنه منصوب ومنصوب بالفتحة العلامة الأصلية للنصب، مع أن النصب في العربية يدل على التعب، فما الذي جعل اسم أن تعباً، قد يكون ذلك لأن هذه الموجودية صارت محدودةً داخل الشكل، في حين أن دراستهم الوصفية تقول إن لها أخوات، ولضعفهم في الانفتاح على الفلسفة العربية لم يربطوا بين الموجود والوجود، فكل تمظهرات (إنَّ) هي في علاقة الموجود دليلا للوجود، وربما هذا الذي أوهمهم أن لـ (إِنَّ) أخوات. 

أما في (كان) التي قلنا إنها ما بعد الموجود فيقولون إنها فعل ناقص، دون أن يوضحوا لنا هذا النقص، وأن اسم كان مرفوع، على أن الرفع ليس بفعل كان، بل لأن القاعدة العامة في العربية أن الأسماء دائمًا في حالة الرفع وكان من المفترض أن يوضحوا لنا لماذا كان الخبر في وضع الرفع أو في محله. هنا نحاول أن نربط بين بناء الجملة العربية وقصة خلق الإنسان كما في القرآن، فإن خلق الإنسان بدأ من مادة فيزيائية محض ثم تطورت هذه المادة إلى مخلوق حي متنفس بمساعدة عنصر آخر هو الماء، ثم يتقدم الإنسان فقط دون باقي المخلوقات الحية بالروح، أي أن الروح هي التي تنقله من البشر إلى الإنسان ومن اللغة والمنطق الفيزيائي إلى الكلام الذي قلنا إنه مشيئة وإرادة، فالظواهر الطبيعية والحشرات والحيوانات وما إليها تنطق، ولكنها لا تتكلم، وقد نفهم منطقها أو قد نستخرج قواعده أو قد نقوم بعملية استقرائية بقواعد منطق الطبيعة لأنها قد تتكرر، ولكننا لا يمكن أن نجري هذا الاستقراء وتعميم الأحكام على الإنسان لأنه كائن إرادي، بخلاف المعطى الفيزيائي والحيواني فيه. 

هنا نمهد لذلك بمفهوم الجملة في العربية وكيف أخطأ الأعاجم في فهم الجملة التي هي كالإنسان لها تمظهر فيزيائي من خلال الطاقة التي تظهر هذه الأصوات قوة وضعفًا في حال النطق كما تظهر الحركة دليل حركة العمليات الذهنية الواعية والإرادية التي تنكشف لنا من خلال العمليات الإعرابية، هذا إذا فهمنا الإعراب لأنه عملية إيضاح لما يجري في الذهن، وأن العلامات التي نضعها على الرمز الخطي لا نفهمها إلا دليلًا على تلك العمليات في الذهن أنها تدخل ضمن مبحث الدلالات (السيمولوجيا)، أي السمة الظاهرة في الرمز الخطي، التي تحيلنا إلى المفاهيم (السيمونطيقة) أن اللغة تجعلنا نؤكد على أن الجملة كائن حي متحرك وأنها تتنفس، ولكن أبعد من ذلك أن الجملة باعتبارها مكونًا لكلمات تربطها الروح بما هي مشيئة وإرادة.

زر الذهاب إلى الأعلى