على إسفلت الحرمين
بقلم/ عفاف الفرجاني
“معتمرون ليبيون عالقون في جدَّة يناشدون سلطات بلادهم تأمين عودتهم”. تصدَّر هذا العنوان صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، وأثار ردود فعل غاضبة تجاه ما تفعله شركات الطيران الليبية بالمعتمرين.
من خلال رصدي للموقف، أثناء وجودي في الأراضي المقدسة، فإن ما حدث لليبيين من افتراش لأرض المطار — كبارًا وصغارًا، نساءً وأطفالًا — لأيام عدة بسبب تأخير العودة إلى الوطن منذ حلول عيد الفطر، أمر لا يليق لا بكرامة الإنسان ولا بمقام الزمان والمكان. بعض المعتمرين من المرضى والنساء يناشدون الجهات المختصة لإيجاد حل لمشكلتهم، وحتى لحظة كتابة هذا المقال، لا توجد أي خطة واضحة من قبل الشركة لتسيير الرحلات أو حتى للتواصل مع الركاب. فقط بيانات ومناشدات تُنشر على صفحات المواقع الإلكترونية، دون أي فائدة تُرجى.
ما زاد المشهد سوءًا، تلك الصور التي يظهر فيها الليبيون في مطار الملك عبدالعزيز بجدة، في حالة من الحزن والغضب والخوف، وهم يفترشون الأرض متوسدين حقائبهم.
تبدأ المعاناة منذ اللحظة الأولى لاختيار المعتمر لشركة السفر والسياحة، التي يُفترض أن تنظم له رحلته إلى الأراضي المقدسة من طيران وتنقل وفنادق بين مكة المكرمة والمدينة المنورة. لكن الواقع أن هذه الشركات جلّ اهتمامها الربح المادي السريع، وآخر أولوياتها هو المواطن وراحته. هذه الرحلات تُكلّف المواطن مبالغ كبيرة من ماله الخاص، ورغم ذلك، يجد نفسه أمام خيارات لا تلبي احتياجاته، بدءًا من الفندق الذي غالبًا ما يكون دون المستوى، ومرورًا بسوء التنقل، ووصولًا إلى ردود مندوب الشركة، الذي لا يملك سوى أسطوانة “بإذن الله” و”حاضر”، تتبعها هواتف مغلقة أو أعذار واهية مثل “الخدمة مرفوعة”.
ومن هنا تبدأ رحلة العناء الحقيقية، إذ يقفز المواطن من معاناة السكن والتنقل إلى معضلة أكبر، وهي العودة. فبرنامج العودة لا يُضمن بتذكرة طيران، بل بكلمة رجل من صاحب التشاركية. وحين يأتي موعد “كلمة الرجل”، لا تجد لا الكلمة ولا الرجل!
ما حدث هذا العام ليس سوى مزيج من الفوضى وسوء التنظيم أو حتى انعدامه. فقد قامت شركة الطيران التابعة لوزارة المواصلات ومصلحة الطيران المدني ببيع التذاكر المحجوزة مسبقًا للمعتمرين، إلى زبائن جدد بقيمة أعلى (200 دولار إضافية)، ليستفيد “أبو 200 دولار” ويحرم صاحب الحق من مقعده.
والأنكى من ذلك، أنه تم تعطيل منظومة حجز التذاكر بحجة “خلل تقني”. بعض الشركات حاولت توفير سكن مؤقت في فنادق لحين حل الأزمة، وأخرى تقاعست. وفي الحالتين، المواطن وحده من يدفع الثمن.
كل هذا يقودنا إلى خلاصة مؤلمة: الفوضى في ليبيا طالت كل شيء، حتى أبسط حقوق المواطن، الذي اجتهد وتعب ليؤدي شعيرة دينية، فإذا به يُهان وتُصادر كرامته ويُرمى على إسفلت مطار بلد آخر!
ما لم تفعله الحروب في الطيران الجوي، فعلته إدارات شركات الطيران الوطنية في حق الليبيين. هذا الفساد في قطاع الطيران يسير بخطٍّ متوازٍ مع فساد الحكومة، ويزداد ترسّخًا بسبب غياب جهاز رقابي حقيقي مثل ديوان المحاسبة.
فلو كان هذا الجهاز فاعلًا بحق، لفتح تحقيقًا واسع النطاق في التلاعب الحاصل، الذي لم يظهر اليوم فقط، بل عمره سنوات. لذلك، لا يمكن توجيه شكاوى المواطنين لأي جهة غير مصلحة الطيران المدني، فهي الجهة المسؤولة الأولى، وهي المستفيدة الأكبر من هذا الفساد. إذ تتقاضى رسومًا من شركات الطيران، وتحصل على مزايا وتدريبات ومهمات عمل خارجية، تموَّل من قبل هذه الشركات تحت بنود ما يسمى “اتفاقات مشتركة”.
المصلحة إذن ليست بعيدة عن الفساد، بل شريكة فيه، وتخدمه.