صناعة الأوطان
بقلم/ محمد بوخروبة
كلمة “صناعة” من أحب الكلمات إلى قلبي، صناعة دولة، صناعة وطن، صناعة شعب، صناعة هوية، صناعة نخبة، صناعة نمط حياة، صناعة وعي، صناعة السياسة، صناعة مجتمع مدني، صناعة المحبة.. إلخ.
في الصناعة يظهر دور البشر الذين يصنعون تاريخهم بدلًا من اعتمادهم على ما ورثوه أو ما وصلوا إليه عن طريق الحدس والشعور والكلمة العابرة والشائعات والمعلومات المغلوطة والمكايدة، والصناعة سيرورة تراكمية طويلة، أساسها ثلاثية “الوعي والصبر والتنظيم”، من دونها نحن لسنا أكثر من كائنات ميتة أو سديم بشري لا فائدة فيه أو جماعات دينية وقبلية وإثنية تتلاطم وتصرف وقتها وترفع صوتها في طريق تدميرنا جميعًا.
الآن وهنا، في هذا الزمن، وفي هذه البقعة من العالم “ليبيا”، يمكننا صناعة الحياة أو صناعة الموت! هناك تنوع كبير في طاقات البشر وآرائهم وأحلامهم وإراداتهم وأحوالهم ومشاكلهم وتربيتهم ومنابتهم وأديانهم وأعراقهم، وهذا يعرفه الجميع، لكنهم ينسونه أو يتنكرون له عندما تطرح عليهم قضايا مفصلية مثل الحكم وطبيعة الدولة وماهيتها.
هذا التنوع من سمات الليبيين في الماضي، ومن سمات غيرها من البلدان، وهو واضح وبيِّن في حاضرها، وسيبقى موجودًا في المستقبل مهما كانت مسارات الواقع وتغيراته، الحكمة تقول إنه من المنطقي والضروري أن يكون هذا التنوع أساس صوغ العقد الاجتماعي الجديد وبناء الدولة الجديدة.
بالطبع، لا يعني هذا الاعتراف بالتنوع الذهاب في طريق آليات ساذجة ومدمرة، مثل “المحاصصات” السياسية والدينية والقبلية، بل يعني بناء حالة متماسكة من الاندماج المجتمعي القائم على التنوع عبر عقد اجتماعي جديد يلحظ ما هو مشترك بين الجميع، يكون أساسًا للدولة الجديدة، وفي الوقت ذاته إفساح الحريات كافة في المجتمع المدني بما لا يخل بهذا العقد.
ما الحل إذا أردنا أن نكون شعبًا واحدًا في وطن واحد؟ أعتقد أن التوافق على الحد الأدنى (أو الأضعف)، والعمل انطلاقًا منه، وبدلالته، بين الليبيين هو المخرج. وهذا هو المعنى العميق لحديث الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام “سيروا سير ضعفائكم”، أي ابحثوا عن الحيز المشترك بينكم، أو عن الحد الأدنى المتوافر لديكم جميعًا والمتوافق معكم والجامع لكم.
يتمثل هذا الحيز الأضعف المشترك بين الليبيين بثلاثية مترابطة هي المواطن الليبي، الشعب الليبي، الدولة الليبية، كل ما عدا ذلك من أفكار وتوجهات لا يبني شعبًا ولا وطنًا ولا دولة، بل ينشئ أرضية خصبة لتناحر واقتتال مجاني مدمر، وحالة غير مستقرة قائمة على الغلبة والقهر استنادًا إلى موازين القوى القائمة في كل لحظة، مع ما يجره ذلك بالضرورة من تدخلات خارجية متنافرة فيما بينها، ومحطمة للجميع.
بهذا المعنى تصبح الدولة المنشودة دولة الجميع ودولة لا أحد في الوقت ذاته. هي ليست دولة الإسلاميين، ولا دولة الشيوعيين أو الليبراليين، لكنها، مع ذلك، دولتهم جميعًا، ولكي تكون كذلك، ينبغي عليهم جميعًا أن يتخلوا عن فكرة صناعة الدولة وفقًا لرؤاهم وتصوراتهم وأديانهم وأيديولوجياتهم، فهي فكرة مدمرة ووهمية في الآن نفسه، إذ لو نجحت إحدى الجهات في فرض هيمنتها على الدولة، فلن يكون ذلك إلا لزمن معين، ولكنها تكون قد دمرت نفسها والدولة والمجتمع في المآل.
أي دولة تتبنى أي أيديولوجية دينية أو وضعية هي دولة قهرية بالضرورة، ولن تحكم إلا بشرعة الاستبداد، ولن تمارس إلا الاعتقال والتمييز، وأي دولة ترفع راية قبيلة أو عرق معين على غيره من الأعراق ستكون بالضرورة دولة شمولية، دينها التصفية والتطهير، مهما كانت الشعارات التي ترفعها نبيلة وبراقة.
الدولة الحديثة، بأجهزتها ونظمها وآلياتها، كائن حيادي عام فوق الجميع، ولا يمكن أن تكون ملكًا لجهة اجتماعية أو حزب سياسي أو دين أو قبيلة، فهذه الدولة تبنى استنادًا إلى العقد الاجتماعي بين المواطنين الأحرار المتساوين في الحقوق والواجبات، وهذا العقد الاجتماعي ما هو إلا الحد الأدنى المشترك بينهم جميعًا، بطريقة أو أخرى.
يمكننا توفير الكثير من الوقت اليوم، بل والكثير من المآسي والكوارث، إن اقتنعنا بعقم وخطر جميع الاتجاهات والرؤى التي تريد بناء الدولة على شاكلتها، وسلمنا بأن الدولة الوحيدة الممكنة في ليبيا، وتحفظ حقوق الجميع، وتصون كرامتهم وحرياتهم، وتعترف بهم وبهوياتهم الذاتية وبانتماءاتهم الفرعية التي يرونها، هي الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة، وهذا هو دين الجمهورية الجديدة.