مقالات الرأي

العودة إلى الوطن بعد قرون.. حق أصيل أم تهديد للهوية؟ – الجزء الثاني

بقلم/ عبدالمجيد قاسم

تحدثت في الجزء الأول من هذا المقال المنشور في العدد السابق عن الموضوع الذي يشير إليه العنوان من زاويته القانونية، وفي هذا الجزء سأسلط الضوء عليه من زاويته الواقعية.

إن التوسع والتضييق في مفهوم الجنسية الليبية (الأصلية)، أي التي تمنح بقوة القانون، عبر السنوات لم يكن مجرد تغيير قانوني، بل أدى إلى خلق حالة داخل المجتمع الليبي.

فمصطلح (عائد من المهجر)، وهو مصطلح قانوني تناولته اللوائح في إشارة إلى الليبيين المهاجرين الذين اختاروا العودة إلى ديارهم وديار أجدادهم، بات يحمل دلالة غير منصفة، وإن كان هذا ليس حكمًا نهائيًّا، فالأمر متفاوت، لكنه يفتح باب النقاش حول مسألة التجنيس وأبعادها الاجتماعية والسياسية، في ظل مخاوف من تغييرات ديموغرافية قد تؤثر في التوازنات القائمة، فهل هذه المخاوف التي تعكس نوعًا من الرفض المجتمعي لحالة قائمة طبيعية؟ 

من الناحية النفسية، المجتمعات بطبيعتها تميل إلى مقاومة أي تغيير في تركيبتها، وتخشى أن يؤدي قدوم أعداد كبيرة من الخارج إلى اهتزاز البنية الاجتماعية أو الاقتصادية، وهذا ما حدث في أكثر من تجربة تاريخية، كتجربة أحفاد الموريسكيين الذين طالبوا باستعادة جنسيتهم الإسبانية فواجهوا رفضًا رغم أصولهم الواضحة، وفي دول أخرى، مثل ألمانيا وكازاخستان، مُنح العائدون من أصول قومية معينة حق الجنسية، لكنهم رغم ذلك واجهوا صعوبة في الاندماج بسبب نظرة المجتمع إليهم كغرباء، كما أن منح الجنسية الليبية كان ولا يزال يمثل إشكالية لها أبعادها السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، فالقانون يعطي الحق للعائد من المهجر في اختيار الجنسية الليبية، وقد صدرت بناء على ذلك مبادئ من المحكمة العليا وكذلك فتوى من إدارة القانون تعد العائدين من المهجر ليبيين بقوة القانون دون الحاجة إلى أي إجراء آخر. 

لكن هذه المبادئ وتلك الفتوى اصطدمت بواقع الأمر، لأن القانون اشترط أن يفصح العائد من المهجر عن اختياره للجنسية الليبية حتى تمنح له، فبات منح الجنسية لهذه الشريحة مرهونًا بصدور قرار إداري من الجهة المختصة، وصار عرضة لمعوقات البيروقراطية، وأحيانًا عرضة لتعسف سلطة إصدار القرار، فأصبح منح الجنسية لهذه الشريحة نوعًا من التجنيس أكثر من كونه حقًا، ومع الوقت أصبح لتلك الشريحة همومها الخاصة التي جعلت بينها وبين باقي الليبيين نوعًا من التفرقة، كان لها أثرها الاجتماعي السلبي، وقد حدث في الآونة الأخيرة أن تم مراجعة ملفات هذه الشريحة، وتم إيقاف عدد منها للاشتباه، برغم أن كثيرًا ممن تم إيقاف ملفاتهم تجاوزت فترة منحهم الجنسية الثلاثين سنة، فهل مثل هذا الإجراء منصف أو حتى منطقي؟ 

إن ليبيا، التي شهدت تغيرات قانونية في تعريف المواطنة، تواجه اليوم تحديًا حقيقيًّا في تحقيق التوازن بين الحقوق التاريخية والأمن القومي، فقضية الجنسية إذن ليست مجرد ورقة رسمية، بل مسألة لها أبعادها الاجتماعية والسياسية والأمنية والاقتصادية، وهنا تبرز الحاجة إلى استراتيجية واضحة وشاملة، لا تتعامل مع القضية كإجراء قانوني فقط، بل تأخذ في الاعتبار تلك الأبعاد، وتحدد آليات الإدماج دون أن تؤدي إلى خلخلة التركيبة السكانية.

أخيرًا فقد بات من الواضح أن منح الجنسية لذوي الأصول الليبية ليس مجرد إجراء إداري، بل قضية ذات أبعاد اجتماعية وسياسية معقدة، ومع ذلك، فإن التجارب التاريخية تثبت أن الحلول ممكنة، خاصة إذا تمت معالجة الأمر برؤية متوازنة تراعي الحقوق دون أن تخل بالاستقرار المجتمعي، وربما يكون الحل في إصلاح تشريعي يحدد آليات عادلة لمنح الجنسية، مع وضع سياسات إدماج تدريجية تخفف من المخاوف وتضمن التعايش المشترك، المهم في النهاية، ألا يُترك هذا الملف معلقًا بلا حلول، لأن التحديات لا تزول بالتجاهل، بل بالمبادرات والإرادة السياسية.

زر الذهاب إلى الأعلى