الإفقار وانهيار الدينار بين العملاء ودواعش المال العام
بقلم/ محمد جبريل العرفي
مشكلة ليبيا في عملاء رهنوا مصدر دخلها للأجنبي، وخردوا منشآتها الاقتصادية، ومن مظاهر النهب؛ الازدواج الوظيفي، ونفقات البعثات الدبلوماسية، والعلاج بالخارج، والاعتمادات الوهمية، والإنفاق الاستعراضي كالحج، والمغالاة بمشاريع النفط، ونهب دخل مبيعات النفط قبل أن يصل إلى الخزانة، والتهريب وتضخم دعم الطاقة، ثم ثنوا على نهب أرصدة الشركات العامة كالاتصالات والاستثمارات وجمعية الدعوة والأوقاف، وغيرها.
تآكل الأرصدة، وتبديد الدخل، واستنزاف الاحتياطي، ونهب الاستثمارات، وتخريب المؤسسات الإنتاجية، والتهريب، ستجرنا إلى الاقتراض من البنك الدولي بشروطه المذلة لسحق الفئات الهشة.
المصرف المركزي في استطاعته أن يعود بالدينار إلى قيمته قبل 86 أي 3.2 دولار للدينار، طالما وُجدت احتياطيات، لكن عندما ينضب الاحتياطي سينهار الدينار، لأن قوة عملة أي دولة بصادراتها من المنتجات والخدمات، هذه ليست أول مرة تمر ليبيا بأزمة مالية، ففي 82 بدأت المقاطعة الأمريكية، ثم 1986 انهارت أسعار النفط، و1991 حصار لوكربي، في وقت بُنيت خطة التنمية على تقديرات لدخل النفط، بعيدًا عن احتياطي العملة الأجنبية، الذي هبط إلى 450 مليون دولار فقط.
الأزمة حتمت ترشيد إنفاق العملة الأجنبية، فصُنف الاستيراد لثلاثة أصناف، أولها سلع لا تمس، كالتموين، والأدوية والمستلزمات الطبية، والمواد الخام ومستلزمات التشغيل، والتعليم والتدريب، والسلع المعمرة، ومواد ومعدات الصيانة، وإصحاح البيئة، ومواد التنظيف، والأسمدة والبذور والمبيدات الزراعية، والثانية سلع كمالية محظور استيرادها كالعطور ومواد الزينة، والملابس باستثناء الأطفال دون سن العاشرة، والأثاث، ومواد التشطيبات الفاخرة، وفئة ثالثة يخضع استيرادها للسلطة التقديرية، كالأعلاف ومواد البناء، ووضعت قيود على استجلاب العمالة الأجنبية.
فأديرت الأزمة -التي أطاحت بعدة دول- بحكمة وشجاعة، فلم يشعر المواطن بنقص في الغذاء أو الدواء أو الكهرباء، وخرجنا من الأزمة أقوى وأغنى، وشرعنا في خطة تنمية طموحة متمثلة في 13000 مشروع بقيمة 145 مليار دينار منها 500 ألف وحدة سكنية و7 مطارات و6 موانئ و13 مركبًا جامعيًّا ومستشفيات ووحدات صحية ومدن رياضية وبنية تحتية منها 3 طرق حديدية وأسفلتية وكهرباء واتصالات وقطارات المدن.
دخل ليبيا من 69 إلى 2011 بلغ 400 مليار دولار، تم تجنيبه كاملًا، بتنفيذ قانون التخطيط الذي يحتم تخصيص ما لا يقل عن 70 % من دخل النفط للتنمية والباقي للتسييرية، وبتطبيق شعار (تدوير نافورة النفط) فالإنفاق على مشاريع الصناعة والزراعة والبنية التحتية والصحة والتعليم في الداخل والخارج، والتسليح والأمن والبعثات الدبلوماسية، والنهر الصناعي العظيم، تمت من استثمار دخل النفط، فاجتازت ليبيا الأزمة بمدخرات 370 مليار دولار و180 طن ذهب، سلمها بن قدارة عندما فر في 2011.2.21.
هذه تجربة ممكن الاستفادة منها لتجاوز الأزمة، دون الحاجة إلى إجراءات استثنائية أو سياسات مبتكرة، لكنه يتطلب إدارة تصون وتنمي المال العام لمصلحة الأجيال القادمة، بالقضاء على سوء الإدارة والفساد وسيطرة الميليشيات، وترشيد الاستيراد وتقنين التوظيف، ودعم وحماية الإنتاج المحلي، وتحسين الخدمات، وخاصة بالصحة، وتنويع مصادر الدخل، وتمارس الردع بتنفيذ التشريعات السارية بصرامة؛ كالإثراء بلا سبب، ومن أين لك هذا؟ لتجرد النهابين مما نهبوه وتعيده إلى أصحابه الحقيقيين الأحياء والذين سيولدون، فالأجدى تحرير إقرارات شفافية جديدة تفرز النهابين ليضافوا إلى 681 سارقًا، حددتهم إقرارات الشفافية السابقة على رأسهم (الحاج علي) هذا القائمة يعرفها من الأحياء الدكتور بوتوته، والأستاذ مفتاح كعيبه، وورد في مقال (أهل السقيفة)، هذا سيثلج صدور الناس، لأن النهب يراكم الثروة، التي تصنع الفروق التي تولد الغبن، فيفجر الثورة، هذا ممكن لو توفرت الإرادة والإدارة والنزاهة والوطنية، لكن في غياب أي من هذه العناصر الأربعة سيبدأ الانهيار، وتتوقف الخدمات، فلا وقود ولا دواء ولا تعليم، ولا مرتبات للأكل والشرب، وسيعود الليبيون إلى عصر ما قبل الكهرباء، وأيام القمل والتراكوما والجدري والأمية، وقد يصل الانهيار إلى القضاء فيصبح القوي يأكل الضعيف، ويُسحق 99% من الليبيين، أما النهابون فسيلحقون أموالهم المهربة للخارج ويعيشون بها كالمقرف والضراط وصهد والسراج وغيرهم.
ومن يتبقَّ من النهابين فسيشكلون الأجسام المنتخبة (لأنهم الأقدر على الدعاية وشراء الأصوات وذمم لجان الإشراف) وسيصدرون تشريعات تشرعن نهبهم، وينصبون حكومة ومناصب سيادية تنفذ إرادتهم، ليعيش بقية الليبيين عبيدًا لهذا الطبقة التي بدأت تتشكل منذ أثرياء لوكربي إلى دواعش المال العام بعد 2011، مما يتطلب افتكاك السلطة من بين مخالب النهابين بأسلوب مبتكر، كأن يمنع ولمدة خمس سنوات من الترشح للرئاسات أو للبرلمانات القادمة كل من اكتسب عضوية المؤتمر الوطني أو مجلس النواب أو المجلس الرئاسي، أو الحكومات المنبثقة عنهم، أو تولى وظيفة بقرار منهم، أو كان مساهمًا في شركة مُنحت اعتمادات بأكثر من ربع مليون دولار منذ 2012، أو أقربائهم للدرجة الثانية أو شركائهم الاقتصاديين، أو تمييز الفقراء بأغلبية في المجالس المنتخبة.
المسؤولية الوطنية لمجلس النواب تتطلب إصدار تشريعات خاصة تحمي الاحتياطي والاستثمار، وتشدد الرقابة على الإنفاق، بما فيها تعديل عجز المادة 8 من القانون رقم 1 لسنة 24، فالأجدى إحالة الاختصاص إلى رئاسة الجسم الواقع بنطاقه المشروع. لتعزيز النهضة التي بدأت بإعمار المناطق المحمية بالقوات المسلحة، من إسكان وجامعات وبنية تحتية ومشاريع زراعية وصناعية، في وقت تهدر وتنهب حكومة النكبة الوطنية الأموال دون مردود.