مقالات الرأي

من الداخل والخارج: أزمات مزدوجة تضرب الاقتصاد الليبي

بقلم/ عثمان الدعيكي

يشهد الاقتصاد العالمي في الآونة الأخيرة اضطرابات متزايدة نتيجة تصاعد الحرب التجارية التي تقودها الولايات المتحدة على أغلب دول العالم، وعلى رأسهم الصين والاتحاد الأوروبي. فقد شرعت الإدارة الأمريكية مطلع هذا العام في فرض رسوم جمركية جديدة على وارداتها، مستهدفة قطاعات استراتيجية مثل السيارات والتكنولوجيا والمعادن، ما استدعى ردودًا انتقامية من الدول المتضررة التي أعلنت عن رسوم مقابلة. هذه التوترات التجارية، التي تهدد بإعادة تشكيل سلاسل التوريد العالمية، دفعت العديد من المؤسسات المالية الدولية إلى مراجعة توقعاتها للنمو الاقتصادي العالمي نحو الانخفاض. ووفقًا لتقرير صندوق النقد الدولي الصادر في مارس 2025، من المتوقع أن يتباطأ النمو العالمي إلى 2.3% مقارنة بـ 2.9% في العام السابق، وهو أدنى معدل نمو منذ أزمة كورونا عام 2020.

هذا التباطؤ مرشح لأن يؤثر مباشرة على الطلب العالمي على الطاقة، ما سيضغط على أسعار النفط نحو الهبوط في النصف الثاني من العام. وتوقعت وكالة الطاقة الدولية أن تتراجع الأسعار إلى حدود 65 دولارًا للبرميل أو أقل، إذا ما استمرت وتيرة الركود التجاري العالمي، وهو ما يمثل تهديدًا مباشرًا لدول تعتمد على النفط كمصدر رئيسي للدخل، وفي مقدمتها ليبيا، التي يستحوذ النفط على أكثر من 95% من إيراداتها العامة.

في ظل هذه الظروف، يواجه الاقتصاد الليبي أزمة مركبة، تتجاوز تأثيرات العوامل الخارجية لتتعمق بفعل هشاشة البنية الداخلية. إذ تعيش البلاد منذ عام 2014 حالة انقسام سياسي حاد وازدواجية في المؤسسات السيادية والمالية، ما جعل من الصعب اعتماد سياسات اقتصادية متسقة وفاعلة. وقد انعكست هذه الانقسامات على أداء الاقتصاد الوطني، الذي دخل فعليًّا مرحلة من “الركود التضخمي”، حيث يتباطأ النمو وتنهار القوة الشرائية في آن واحد.

ومن أبرز مظاهر هذا التدهور، الانهيار التدريجي في قيمة الدينار الليبي. فمنذ عام 2014، شهد الدينار عدة تخفيضات متتالية، كان أبرزها فرض مصرف ليبيا المركزي في سبتمبر 2018، بتفويض من مجلس النواب، رسمًا بنسبة 183% على بيع العملة الأجنبية، ما رفع سعر صرف الدولار من 1.4 د. ل إلى نحو 3.9 د.ل. ثم جاء قرار توحيد سعر الصرف في يناير 2021 عند 4.48 دينار للدولار، ليمثل تخفيضًا إضافيًّا. وبلغت الأزمة ذروتها في أبريل الجاري (2025) عندما تم إقرار تخفيض جديد بنسبة تزيد على 13%، ما أدى إلى ارتفاع سعر الدولار إلى أكثر من 5 دنانير، في خطوة أثارت قلق الأوساط الاقتصادية من تسارع معدلات التضخم وانهيار القوة الشرائية.

وبحسب البنك الدولي، فقد ارتفعت أسعار السلع الأساسية في ليبيا بنسبة تجاوزت 60 % خلال السنوات الأخيرة، بينما بلغ معدل التضخم 20 % على أساس سنوي، بنهاية عام 2024، وفقًا لصندوق النقد الدولي، وهو من أعلى المعدلات في شمال إفريقيا. ويتزامن ذلك مع تآكل الاحتياطي النقدي تدريجيًّا، رغم العائدات النفطية المرتفعة نسبيًا في العام الماضي، ما يكشف عن ضعف قدرة الدولة على إدارة مواردها بشكل مستدام.

وإلى جانب الأزمة النقدية، تعاني المالية العامة من اختلالات مزمنة، فقد أظهر تقرير ديوان المحاسبة لعام 2024 أن أكثر من 60% من الميزانية المجمعة للدولة تم إنفاقها على بند المرتبات، بينما لم يتجاوز الإنفاق التنموي 10%، وهي سياسة مالية غير رشيدة تعزز من الترهل الإداري وتكرّس الاعتماد على التوظيف غير المنتج في القطاع العام. ويبلغ عدد العاملين في الجهاز الإداري للدولة أكثر من 2.3 مليون موظف من أصل نحو 7 ملايين نسمة، ما يعادل أكثر من ثلث السكان، وهي من أعلى النسب عالميًّا، وتفرض عبئًا كبيرًا على الميزانية العامة.

هذا الخلل المالي ترافق مع غياب شبه كامل لآليات الرقابة والمحاسبة. فقد صنَّفت منظمة الشفافية الدولية ليبيا في المرتبة 172 من أصل 180 دولة في مؤشر مدركات الفساد لعام 2024، وأشارت إلى أن تفشي الفساد الإداري والمالي يمثل أحد أبرز المعوقات أمام أي إصلاح اقتصادي جاد. وأكد ديوان المحاسبة في تقريره الأخير وجود تجاوزات في عقود توريد، ومصروفات تشغيلية غير مبررة، وتداخل في الاختصاصات بين الجهات التنفيذية والأمنية الموازية.

وفي ظل غياب أي تنويع اقتصادي حقيقي، يعتمد الاقتصاد الليبي بالكامل تقريبًا على عائدات النفط، ما يجعله شديد الحساسية لأي تغير في الأسعار العالمية. وإذا ما تحقق السيناريو المتوقع بانخفاض أسعار النفط إلى ما دون 65 دولارًا للبرميل، فإن الميزانية الليبية مرشحة لعجز يتفاقم، قد يدفع بالسلطات النقدية إلى خيارات خطيرة مثل مزيد من استنزاف الاحتياطي أو طباعة النقود، ما سيغذي التضخم ويزيد الضغط على المواطنين.

تشير تقديرات البنك الدولي إلى أن نسبة الفقر في ليبيا ارتفعت إلى أكثر من 30% بنهاية عام 2024، مقارنة بـ 16% فقط في عام 2012، بينما ارتفعت معدلات البطالة في صفوف الشباب لتتجاوز 40%، في ظل غياب فرص عمل حقيقية وضعف الاستثمار في القطاعات الإنتاجية. كما أظهرت بيانات الأمم المتحدة تراجع مؤشرات الأمن الغذائي والصحي، ما يهدد الاستقرار الاجتماعي على المدى القريب.

في ظل هذا المشهد المعقّد، يبدو أن الاقتصاد الليبي مقبل على مرحلة حرجة تستوجب تدخلًا سريعًا وحاسمًا. فلا يمكن تحقيق انتعاش اقتصادي دون توافق سياسي يعيد توحيد مؤسسات الدولة، ويطلق إصلاحات جذرية تعالج الخلل في إدارة المال العام، وتعيد توجيه الموارد نحو الاستثمار والإنتاج والتنمية البشرية. إن الاستمرار على هذا النهج، في ظل المتغيرات الدولية المتسارعة، لا يهدد فقط الاقتصاد، بل يمهد لانفجار اجتماعي وشيك ستكون كلفته باهظة على الجميع.

زر الذهاب إلى الأعلى