الحاجة إلى وخز الذات
بقلم/ المهدي الفهري
الحرص على استخدام الرقة في التعامل مع الغير والتلطف معهم بأسلوب حضاري أكثر استجابة وقبولًا ليس دليلًا دائمًا على الضعف والمداهنة، وإنما دليل على الرقي والوعي والثقة بالنفس، ونحن بذلك نقدم الصورة المُثلى التي تترجم فيها أقوالنا إلى أفعال وأفعالنا إلى سلوك عملي يرفع من روح ورصيد المبادرة لدينا وينعكس بمزيد من الرضا والقبول على صِلاتنا وتواصلنا مع من حولنا في وقت نبحث فيه عن فسحة من الأمل تحد من حالة الهروب الجماعي من الواقع وتجود علينا بوطن جامع ومطابق لأحلامنا وأمانينا، فالفرق كبير بين ما نعيشه وبين ما نتصوره، وما نريده، ولا شك أن البسطاء وحدهم هم من يشعرون بالأسف عندما يرتكبون بعض الأخطاء ويتعهدون بعدم تكرارها ما استطاعوا ليس لأنهم ضعفاء أو عاجزون عن الفعل، بل لأنهم يحملون عن وعي وعن قناعة وبالفطرة النقية ضميرًا حيًّا مستهجنًا للظلم ورافضًا للإساءة للآخرين ولا يسمح لهم البتة ببناء سعادتهم على بؤس وتعاسة غيرهم، ولأنهم يمتلكون حسًّا مرهفًا وإحساسًا موروثًا ومكتسبًا ساهمت في صنعه ونسج خيوطه حقائق التاريخ والحضارة ومعطيات ومؤسسات أصيلة وما تمثله من نُبل وعراقة ومعانٍ وجودية ليس أقلها التربية السليمة عبر الأسرة والمدرسة والمجتمع المعافى من الأمراض الاجتماعية من بدع وجهل وتخلف، وذلك بالتوازي مع أهمية التحكم الكامل في الذهن في المجال العقلي والفكري الذي عادة ما يتحكم في اتجاه البوصلة ويحدد مسارات التفكير، فمعظم الناس يخوضون صراعًا مع قدراتهم الخفية التي لا يستغلونها بطريقة صحيحة.
والإحساس البشري في مجمله يتلبد في بعض الأحيان بغيوم الغباء ويتبلد بتراكمات الكسل والأمية وينكمش بهاجس الخوف والتردد ويبقى في حاجة إلى من يوقظه من سباته وغفوته، وربما يحتاج في ذلك إلى الخضوع لبعض الوخزات وحتى الصدمات لتحريكه وتحفيز خلاياه الحسبة الجامدة على النشاط والتعرف على البيئة المحيطة بنا ومعالجة حالات اللامبالاة وعدم الاكتراث التي تحاصر تفكيرنا وتحد من قدراتنا على الانطلاق وتؤدي بنا إلى الامتثال للذات والركون إلى الواقع كما هو.
ولعل تعلم الدروس من التجارب السابقة يجعلنا أكثر وعيًا وواقعية ويفرض علينا سلوكًا متقدمًا ومتحضرا يشعرنا بالثقة والطمأنينة في الحياة ويجنبنا تكرار الأخطاء والزلات ويضمن لنا السير السوي على النهج السديد والقويم الذي يجب أن نتحلى به في علاقاتنا وفي تعاملنا مع غيرنا، ويمكننا من قهر النفس والتغلب على غيها وغرورها وكبح مغرياتها وتهورها بكل سهولة ويسر، فالشعور بالذنب علامة من علامات وخز الذات ومؤشر على النضج والتفكير الإيجابي والانحياز لجادة الصواب وطريقة سهلة للتخلص من الأنانية المقيتة، وهذا لا يعني أن لا نقبل الأخطاء بالمطلق بقدر ما يعني أن من يملك هذا الإحساس هو إنسان متفوق على نفسه وجدير بالتعامل مع غيره بشكل متمدن ومهذب ويذكِّرنا في نفس الوقت بأهمية إحياء الذاكرة والمحافظة عليها من النفاذ والاختراق والسعي إلى تحقيق فكر إدراكي فعال تكمن في جوهره وحدة الوعي والحدس والمعرفة المسبقة، ويكون قادرًا على إلزامنا بالتمسك والارتباط بالقيم الفكرية والثقافية الوطنية النبيلة دون أي غموض أو إبهام أو التباس.