مقالات الرأي

ترامب وسياسة الردح

بقلم/ مونيكا عياد

قال أوسكار وايلد أن “السخرية هي أقوى سلاح ضد الواقع” … لكن ترامب حوّلها إلى سلاح نووي ينسف به قواعد الخطاب السياسي، ليستبدلها بلغة الشوارع وردح الحانات !

عاد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى واجهة الأخبار خلال ٢٤ ساعة الماضية، بلغةٍ لا تليق ببائع متجول، ناهيك عن زعيم دولة عظمى. فبينما كان العالم يتنفس الصعداء من ضربة الرسوم الجمركية التي تهدد نظام التجارة عالميا، نجده يصرخ من جديد بأن الدول ستتوسل له للتفاوض معه وقال حرفيا “أنني أقول لكم هذه البلدان تتصل بنا وتقبل مؤخرتي وتستميت لإجراء صفقة… من فضلك.. من فضلك سأفعل أي شيء ..سأفعل أي شيء سيدي!” ..”إنهم يقبّلون مؤخرتي فقط ليفاوضوني!” عبارة انتشرت في جميع وسائل الإعلام الأمريكي لتصف عالم ترامب السياسي، حيث تتحول المفاوضات إلى مباراة مصارعة، والدبلوماسية إلى مسرحية هزلية.

كلما زادت الفضيحة.. زادت القوة!

ترامب ليس غبيًا، بل هو لاعب شطرنج محترف في لعبة “الفوضى الخلّاقة”. فحين يطلق تصريحًا مثل هذا، فهو يعرف تمامًا أن العناوين ستلهث خلفه، وأن خصومه سينشغلون بالرد عليه بدلًا من مهاجمة سياساته. إنها استراتيجية “التطبيل قبل الضرب” التي تعتمد على تحويل كل نقاش إلى سيرك.

لكن الأكثر إثارة للقلق هو كيف أصبحت هذه اللغة مقبولة لدى شريحةٍ كبيرة من الأمريكيين. فبحسب استطلاعات الرأي، فإن 42% من الناخبين الجمهوريين يرون أن “صراحة ترامب” هي دليل قوته، بينما يرى محللون نفسيون أن خطابه يستجيب لعقدة “الرجل الأبيض الغاضب” الذي يشعر بأن العالم يسرق منه أمجاده.

ترامبيات والالاعيب النفسية

بتحليل خطابات ترامب أكد العديد من الخبراء أنه يلجأ إلى اللغة الدارجة والصادمة البعيدة عن الدبلوماسية وهذا لعدة أسباب منها:
1- السياسة الشعبوية التي تعتمد على خطاب مباشر وغير تقليدي لجذب قاعدة مؤيديه الذين يرون فيه “منقذًا” من نخبة السياسة التقليدية، استخدامه لغة غير رسمية يعزز صورته كـ “خارج عن المألوف” و”صادق” في نظر أنصاره.

2- التغطية الإعلامية: ترامب يدرك جيدًا أن اللغة الصادمة تزيد من ظهوره الإعلامي. تصريحات مثل “يقبلون مؤخرتي” تثير الجدل وتضمن تغطية واسعة، مما يحافظ على وجوده الدائم في الأخبار على المستوى العالمي وليس المحلي فقط ، وهو ما يخدم أجندته السياسية ليظهر بأنه الرجل الأعظم المسيطر على العالم.

3- التفاوض بالضغط النفسي: في السياسة الخارجية يستخدم ترامب هذه اللغة لإظهار القوة والهيمنة، خاصة في ملفات مثل المفاوضات التجارية، فالهدف هو إرسال رسالة مفادها أن الولايات المتحدة في موقع قوة وهي العظمى، وأن الدول الأخرى “تتوسل” للتفاوض.

5- إضعاف المؤسساتية: استخدامه لمثل هذه الألفاظ يقلل من هيبة المنصب الرئاسي التقليدية، وهو ما قد يكون جزءًا من استراتيجية لـ”إعادة تعريف” السياسة وفق رؤيته، وهذا ما يترجم قراراته الكثيرة والسريعة التي اتخذها منذ توليه الحكم ومنها قرارات غير مسبوقة في التاريخ الأمريكي مثل التهديد المباشر باستقلال القضاء، حيث هدد بـ”تعيين قضاة محافظين جدد” في المحكمة العليا إذا حاولت أي محكمة عرقلة قراراته، وقال في أحد التجمعات: “إذا لم يحكموا لصالحنا، سنغير القواعد!”. كما يحاول السيطرة على الجيش والاستخبارات و عين موالين له في البنتاجون ووكالة الأمن القومي (NSA)، وذلك بمساعدة مستشاره إيلون ماسك، والذي أصدر توجيهًا سريًا يسمح له بتعطيل أي تحقيقات استخباراتية تمس مصالح ترامب.

هل انتهى عصر “الدبلوماسية الأمريكية”؟

لم يعد السؤال: “لماذا يتحدث ترامب بهذه الطريقة؟”، بل أصبح: “لماذا نتفاجأ؟”. فمنذ أن أطلق على خصومه ألقابًا مثل “سمينة” أو “مجنون”، وهو يهدم بجرافة ألفاظه كل ما تبقى من وقار البيت الأبيض.

الأسوأ أن هذا النموذج بدأ يجد مقلدين حول العالم.. فها هو “بوريس جونسون” يسخر من البرلمان، و”أردوغان” يهدد خصومه بأبشع العبارات. يبدو أن ترامب لم يكتفِ بتصدير البضائع الأمريكية، بل صدّر أيضًا “ديمقراطية الإهانات”.

كتب الشاعر الفرنسي تشارلز بودلير ” العبقرية هي أن تكون طفلاً في كل شيء”.. لكن ترامب حوّل هذه العبارة إلى ” أن تكون سوقياً في كل شيء” ، حيث لم تعد السياسة لعبة ملوك، بل مشهداً من مسرحيات الردح!

في الثقافة العربية، يُقال ” سأجعلك تبوس رجلي” كتعبيرٍ عن الذلّ والهوان في لغة الاستقواء والبلطجة، فهل أصبحت هذه هي لغة التفاوض في عصر “أمريكا أولاً”؟

اللغة المبتذلة عند ترامب ليست عفوية، بل أداة مدروسة لتعزيز صورته كزعيم مثير للجدل الذي يبقيه في مركز الأضواء، وإرسال رسائل قوة استفزازية للخارج والداخل.

من الردح إلى المرونة

وفي مفارقةٍ تبرز تناقضات السياسة الترامبية، ولكنها في ذات الوقت تؤكد أنها تصريحات لجذب مزيدا من الشو، أعلن ترامب عبر منصته “تروث سوشيال” عن تعليق الرسوم الجمركية لمدة 90 يومًا وتخفيضها 10% لـ75 دولة، واصفًا إياها بأنها “لم ترد بإجراءات عدوانية”، وهذا يأتى بعد ساعات قليلة من تصريحه الفج..وهنا ترامب يغير تكتيكاته دون تغيير استراتيجيته.

وجاء نص منشورة كالآتي ” نظراً لعدم احترام الصين للأسواق العالمية، أرفع بموجب هذا التعريفة الجمركية المفروضة على الصين من الولايات المتحدة الأمريكية إلى 125%، على أن يسري مفعولها فوراً… في المقابل، أكثر من 75 دولة قد اتصلت بممثلي الولايات المتحدة، بما في ذلك وزارتا التجارة والخزانة ومكتب الممثل التجاري الأمريكي، للتفاوض على حل للمواضيع قيد النقاش المتعلقة بالتجارة والحواجز التجارية والتعريفات الجمركية والتلاعب بالعملة والتعريفات غير النقدية، وأن هذه الدول لم تقم، بناءً على اقتراحي، بالرد بأي شكل من الأشكال على الولايات المتحدة، فقد أذنتُ بوقف مؤقت لمدة 90 يوماً، وتعريفة متبادلة مخفضة بشكل كبير خلال هذه الفترة، بنسبة 10%، على أن يسري مفعولها فوراً أيضاً.”

استراتيجية ترامب المزدوجة بين التهدئة والابتزاز، تهدف إلي إغراء الشركات بالانتقال لأمريكا بينما قادة العالم “يتوسلون” لتفادي حربه التجارية”، حيث دعا ترامب الشركات العالمية للانتقال لأمريكا، مروجًا بإعفاءات جمركية، وتقديم اغراءات و موافقات فورية على مشاريع الطاقة، و تخفيف القيود البيئية.

وبتحليل منشورة الأخير والذي يستخدم فيه مطرقة من الذهب نري أنه يوجه عدة رسائل.

1- الرسالة الاقتصادية

  • مكافأة للدول “المطيعة” وهو التخفيض 10%
  • إنذار للدول “المتمردة” وذلك بأن الرسوم الجديدة سارية على غيرها

2-الرسالة السياسية:

  • ترضية للمستثمرين
  • إبقاء سيف الرسوم مسلطًا لمدة 90 يومًا كفترة اختبار
  • تعزيز صورة “الرئيس القوي” الذي “يتوسل له الزعماء

ردود الفعل المتوقعة:

  • الدول المستفيدة: قد تسارع لإبرام صفقات خلال الـ90 يومًا
  • الدول المستثناة: ستتصاعد ضغوطها الدبلوماسية
  • الأسواق العالمية: ارتياح حذر مع استمرار عدم اليقين

الحرب تشتعل.. و الصين تصعق أمريكا

بكين ترد على واشنطن بلغة ترامب المفضلة وهي القوة الغاشمة، حيث أعلنت الصين فرض زيادة جمركية بنسبة 84% على مجموعة من الواردات الأمريكية اعتبارًا من 10 أبريل الجاري، كرد مباشرا على قرار ترامب برفع الرسوم على المنتجات الصينية إلى 104%.
هذا القرار يحمل عدة رسائل:

1- الرد بالمثل وبالقوة:

  • بكين ترفع سقف المواجهة، مؤكدة أنها لن تلعب دور “الدولة التي تتوسل”.
  • نسبة الـ84% ليست عشوائية، بل محسوبة لضرب قطاعات حيوية في الاقتصاد الأمريكي.
  • يأتي الرد بعد ساعات فقط من إعلان ترامب عن “تعليق الرسوم 90 يوما” لـ75 دولة، مما يكشف أن الصين غير موافقه على قبول سياسة العصا والجزرة.

2- ضرب المناطق الحساسة:

  • تستهدف الرسوم الصينية سلعا مثل السيارات، الفواكه، المنتجات الزراعية، وهي قطاعات تؤثر على الولايات الداعمة لترامب. ..وبهذا فقد أرسلت الصين رسالة واضحة لترامب مفادها :” إذا كنت تريد الحرب، فستحصل عليها”. ولكن في هذه الحرب الكل خاسر حيث ستهتز ثقة الأسواق العالمية، وتتقلص أرباح الشركات الأمريكية والصينية معا ، كما يتوقع ارتفاع الأسعار على المستهلكين في أنحاء العالم وذلك لتحمل البضائع الرسوم الجمركية الجديدة.

الآن أصبحت الكرة في ملعب ترامب.. هل سيضاعف الرسوم، أم سيدخل في مفاوضات ويستعين بوسطاء لتهدئة الاجواء التجارية خاصة مع الصين؟.

زر الذهاب إلى الأعلى