الثقافة رؤية ومشروع
علي المبروك أبو قرين
يشهد المجتمع تحولات نتيجة الاستلاب الثقافي، والتشرذم الفكري، والغزو الرقمي، والتطور التقني والتكنولوجي المتسارع، وتحدٍّ داخلي تفرضه الظروف السياسية المعقدة التي تمر بها البلاد والمجتمع، ولهذا أصبح للمثقف دور مهم ومحوري في صياغة الوعي الجمعي، وأن تكون له رؤية ثقافية واضحة، تنبع من الفهم العميق لهوية وتاريخ وقيم المجتمع الذي ينتمي إليه، وللتحولات التي تطرأ على المجتمع والتحديات التي يواجهها، رؤية ثقافية تنبع من وعي المثقف بدوره التاريخي في مجتمعه، وسعيه في إنتاج معرفة محلية أصيلة تنبع من خصوصية وبيئة المجتمع المحافظ، تعزز إحياء الهوية الوطنية والتمسك بها، والاعتزاز بالشخصية الليبية، وتسهم في تطوير الحس النقدي الإيجابي الذي يبني، وتحفز الإبداع والابتكار، وعلى المثقف أن يكون حاضرًا في قضايا الناس متصالحًا مع التراث، وأن يتحول من حامل قلم إلى حامل مشروع نهضوي قيمي، ومن ناقم على الواقع إلى صانع التغيير الإيجابي، وأن يجعل من الكلمة جسرًا للتواصل، ومن الفكرة سلاحًا للتنوير والبناء، ومن الحلم مشروعًا للنهضة.
المثقف الذي لا يملك رؤية بالضرورة لن يملك مشروعًا يخلص المجتمع من الجمود والتبعية والتقليد الأعمى لثقافات وأفكار غريبة ودخيلة، ويبقى حبيسًا في دور المتفرج، والتنظير والنقد المجرد.
الثقافة ليست ترفًا فكريًّا، بل هي فعل تحولي وموقف من الوجود، والمثقف بالضرورة هو أعلى وأشمل وأعمق من نقل للمعرفة أو اجتزاء لما تنتجه مراكز الفكر العالمية، فهو منوط بإنتاج المعرفة المحلية الأصيلة من نفس البيئة، ولا يكتفي بتوصيف الأزمات بل عليه إيجاد الحلول، ورفع درجة الوعي الجمعي، وتحرير العقول من قيود التقليد والتبعية العمياء لثقافات واردة وغريبة ومنافية للقيم، والرؤية هي بوصلة تحتاج إلى مشروع ثقافي وطني يجسدها وينفذها عمليًّا وواقعيًّا، ويمنحها قيمة وفاعلية ويجعلها قابلة للممارسة الفعلية.
إن المشروع الثقافي الوطني ليس شأنًا فرديًّا، بل هو جهد جماعي ومشاركة فاعلة لكل المثقفين والمبدعين والمفكرين والأدباء والفنانين والأكاديميين والبحاث والقطاعات جميعها، والمؤسسات الثقافية والتعليمية والإعلامية والاجتماعية حتى يستطيع المشروع ترجمة الرؤية إلى عمل يعزز الهوية بمفهومها الشامل ويرسخ العقيدة الدينية والوطنية والقيم والمبادئ الإنسانية والأخلاقية، وحماية المجتمع من الانحلال والابتذال والتفسخ والانحراف والتطرف، مشروع ثقافي وطني شامل يحمي المجتمع من الجهل والمرض والتخلف، مشروع ثقافي يربط الثقافة بالمجتمع ولا يعزلها عنه، ويصنع من الكلمة موقفًا، ومن الفكرة جسرًا بين الماضي والحاضر والمستقبل، المشروع الذي يعيد بناء العلاقة بين الإنسان وهويته وموروثه والقيم والمبادئ والثوابت وبين المعرفة والتحول الاجتماعي.
لذا نرجو من أصحاب الشأن وصناع القرار تأسيس مشروع ثقافي وطني، يرفع درجة الوعي الجمعي، ويحمي الأمة من التشرذم الفكري، ويحصنها من الغزو الرقمي السلبي.