ذكرى الجلاء والقرار الوطني
بقلم/ الناشط السياسي فرج الشقار
يوم الثامن والعشرين من مارس ليس مجرد تاريخٍ في الذاكرة الوطنية، بل هو شاهدٌ على واحدةٍ من أهم المحطات في مسيرة ليبيا نحو الاستقلال الحقيقي والسيادة. ففي هذا اليوم، بدأ إجلاء القواعد الأجنبية عن أرض الوطن، في خطوةٍ كانت ثمرة كفاحٍ طويلٍ خاضه الليبيون ضد الاستعمار.
لم يكن الجلاء منحةً أو تنازلًا من قوى الاحتلال، بل كان انتصارًا للإرادة الوطنية التي رفضت الهيمنة والتبعية، وأكدت أن ليبيا لا تقبل أن تكون تحت وصاية أي جهةٍ كانت، واليوم ونحن نستذكر هذه الإنجاز التاريخي، نجد أنفسنا أمام تساؤلٍ جوهري: هل نعيش اليوم استقلالًا حقيقيًا، أم أن سيادتنا أصبحت شكليةً في ظل واقعٍ يفرض علينا أشكالًا جديدة من الوصاية والتدخلات الأجنبية؟
إن إحياء ذكرى الجلاء ليس مجرد بروتوكول احتفالي، بل هو واجبٌ وطني يفرض نفسه على كل ليبيٍ غيورٍ على بلاده، تمامًا كما نحتفل بعيد الاستقلال ومعارك الجهاد ضد الغزاة.
إن استذكار هذا اليوم لا يعني فقط التمجيد، بل هو ضرورةٌ لتعزيز الوعي المجتمعي بتاريخنا الحقيقي، ولترسيخ مفاهيم النضال الوطني في عقول الأجيال القادمة. فالتاريخ ليس مجرد روايةٍ للأحداث، بل هو مصدر إلهامٍ وتوجيهٍ للمستقبل.
ما نشهده اليوم من انقساماتٍ داخليةٍ وتناحرٍ سياسي لم يكن ليحدث لو كان هناك وعيٌ حقيقيٌ بما خاضه الأجداد من معارك، وما قدموه من تضحياتٍ من أجل أن تبقى ليبيا دولةً ذات سيادة. لكن، هل نحن اليوم أوفياء لهذه التضحيات؟ أم أننا، بسبب صراعاتنا الداخلية، سمحنا لقوى الخارج بأن تتحكم في مصيرنا من جديد؟.
لا يمكن إنكار أن ليبيا لا تزال، رغم مرور العقود على خروج القواعد الأجنبية، خاضعةً لأشكالٍ متعددة من الوصاية، وما زالت القرارات الكبرى بشأن مصيرها تُصاغ في عواصم أخرى، وليس داخل حدودها. فكيف يمكن لدولةٍ تخضع للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وتستضيف قواتٍ أجنبية على أراضيها، أن تدّعي امتلاك سيادتها كاملة؟.
إن ما نواجهه اليوم ليس استعمارًا بالمعنى التقليدي، لكنه أكثر خطورة، فهو استعمارٌ مقنّع، يتجسد في التدخلات السياسية، والهيمنة الاقتصادية، والتلاعب بالقرارات المصيرية. والأسوأ من ذلك، أن بعض الليبيين هم من منحهم هذه القوى الفرصة للتحكم في مستقبلنا، بسبب خلافاتهم السياسية التي جعلتهم عاجزين عن الاتفاق حتى على الحد الأدنى من القضايا الوطنية الكبرى.
إن الجلاء الحقيقي اليوم لن يتحقق بمجرد الاحتفال بذكرى الماضي، بل يحتاج إلى انتفاضةٍ شعبيةٍ واعية، تستعيد القرار الوطني، وتفرض إرادة الليبيين فوق أي أجندةٍ خارجية، لا خيار أمامنا إلا أن نقرر مصيرنا بأنفسنا، بعيدًا عن الحسابات الضيقة والمصالح الشخصية، وأن ندرك أن الانقسام الداخلي لن يؤدي إلا إلى مزيدٍ من الهيمنة الخارجية. فكما تحقق الجلاء الأول بوحدة الصف الوطني والتضحيات الجسيمة، فإن الجلاء الثاني لن يتحقق إلا بوحدة الليبيين والتفافهم حول مشروعٍ وطنيٍ حقيقي، يعيد ليبيا إلى موقعها الطبيعي كدولةٍ مستقلةٍ وذات سيادةٍ كاملة.
ليبيا ليست بمعزلٍ عن التغيرات السياسية الدولية، وما يحدث في العالم من صراعاتٍ بين القوى الكبرى يؤثر بشكلٍ مباشرٍ على أوضاعنا الداخلية. إن استمرار التبعية لن يجعل منا سوى ساحةٍ للمنافسة بين الدول، في حين أن الخيار الآخر هو أن نكون أصحاب قرارنا، ونسحب البساط من تحت أقدام القوى التي تسعى لفرض وصايتها علينا. إن اللحظة التاريخية التي نعيشها اليوم تتطلب من كل القوى الوطنية أن تتحمل مسؤولياتها، وأن تقدّم تنازلاتٍ حقيقيةً من أجل البلاد، بعيدًا عن الحسابات الضيقة والمصالح الشخصية. المطلوب اليوم ليس مزيدًا من الخطابات والشعارات، بل عملٌ وطنيٌ جاد، يهدف إلى إنهاء الفوضى وإعادة بناء الدولة على أسسٍ سليمة.
إن يوم الجلاء ليس مجرد ذكرى نستعيدها كل عام، بل هو دعوةٌ للتأمل في واقعنا، وللتساؤل بجرأة: هل نحن اليوم أحرارٌ حقًا؟ أم أننا لا نزال نبحث عن استقلالنا الحقيقي؟ الإجابة على هذا السؤال ليست مجرد كلامٍ نظري، بل يجب أن تتحول إلى حركةٍ وطنيةٍ واعية، تستعيد ليبيا من كل أشكال الوصاية، وتعيد لها مكانتها كدولةٍ مستقلة.
الحرية للوطن.. والسيادة للشعب.. والمجد للشهداء.