-مقالات الرأي

خرائط ما بعد الحرب!!مصطفى الزائدي

‏انتهت الحرب العالمية الثالثة قبل أن تبدأ بهزيمة الغرب نفسيًّا وعسكريًّا، وانتصار الاتحاد الروسي تكتيكيًّا في معركة أوكرانيا، التي لم يسمح لها الوقت للتطور إلى حرب أوسع لتشمل أجزاء كبيرة من العالم باستثناء الحروب المحدودة هنا وهناك، وحروب الشرق الأوسط التي بدأت منذ احتلال العراق والعدوان على أفغانستان ولم تنته رغم إسقاط ليبيا وسوريا وتدمير اليمن ولبنان والسودان وتهديد إيران وباكستان وتركيا، وخلق بؤر توتر في الجزائر وتونس والمغرب ومحاصرة مصر.

ما قام به الرئيس ترامب خطوة استباقية لإنقاذ الولايات المتحدة من انهيار مريع، وضحى في سبيل ذلك بحلفائه الأقربين من الأوروبيين والكنديين وغيرهم الذين شاركوا في الحملة الغربية الواسعة في أوكرانيا.

في الحقيقة حرب الدونباسك لم تكن بين الجيش الروسي والجيش الأوكراني، بل كانت بين الجيش الروسي والجيوش الغربية بتقنياتها وعتادها وجنودها وضباطها، لكن التكتيك الروسي في الحرب جعلها عملية عسكرية خاصة قضمت بموجبها روسيا أراضي واسعة من أوكرانيا، وأعدت نفسها لتطويرها إلى حرب أوسع، ولقد كان لاستخدام الصاروخ الاستراتيجي “أوريشنيك” المرعب في الحرب دور مهم في حسمها لمصلحة الروس، رغم أنهم أطلقوا عددًا قليلًا منها، ولم تستخدم على نطاق واسع لضرب العواصم الأوروبية كما هدد مدفيديف قبل استخدامه.

سقوط بايدن في الانتخابات الأمريكية في تقديري هو نتيجة خسارة الغرب لمعركة أوكرانيا، فبحث الأمريكيون عن شخص يتحلى بالبرود والشجاعة في نفس الوقت، يمكن أمريكا من الخروج منها محافظة على ماء وجهها، ويقبل بنتائج المعركة حتى وإن كانت مخرجاتها لصالح العدو التقليدي للغرب روسيا، لذلك لم يكن لطفًا من ترامب ولا حبًّا في روسيا ولا أوكرانيا، ولا كرهًا لرؤية الدماء التي تسيل في أوكرانيا ولا حفاظًا على أرواح المدنيين والعسكريين كما يدَّعي ترامب، بل نتيجة سياسة جديدة لأمريكا في مرحلة بعد الحرب، ففي نفس الوقت الذي كان يردد ذلك، لم يخجل بأن يعلن وبكل وقاحة أنه سيفتح باب الجحيم على الفلسطينيين واليمنيين والإيرانيين، وقد فعل ذلك دون تردد ودون نظر لعشرات آلاف الضحايا الذين سقطوا في تلك المنطقة نتيجة العدوان الصهيوني الأمريكي، المهم عنده الخروج الآمن لأمريكا من حرب الدونباسك.

الحوار الروسي الأمريكي لا يتعلق في تقديري فقط بموضوع تقاسم النفوذ في أوكرانيا وأوروبا، بل يتعلق بترتيبات جديدة تمامًا كترتيبات ما بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، حيث سيتم التقاسم بين القوى الكبرى التي خرجت منتصرة في هذه المعركة وهي الاتحاد الروسي والصين وأمريكا، أتصور أن النفود الأمريكي سيتركز في الوطن العربي والشرق الأوسط عمومًا وأمريكا الجنوبية وبعض المناطق في جنوب شرق آسيا، بالنسبة إلى أوروبا الغربية قد نشهد انسحاب الولايات المتحدة من الناتو وربما سحب قواتها وقفل قواعدها، وحسب تحليل البروفسور الكسندر دوغين فإن الولايات المتحدة ستتخلى عن حليفتها منذ الحرب العالمية الأولى تركيا لمصلحة نفود الاتحاد الروسي رغم الموقف النفاقي لأردوغان من الحرب الأوكرانية ودوره في تدمير سوريا، في وقت قريب ستحسم المسألة الإيرانية ربما عسكريًّا لصالح نفوذ الولايات المتحدة بحيث يصبح الشرق الأوسط كله من إيران إلى المغرب جزءًا من دائرة نفود أمريكي بإدارة صهيونية، حيث ستتمكن إسرائيل من إنهاء خصومها الأساسيين وتتوسع جغرافيًّا على حساب الدول العربية، وتحتكر القدرة العسكرية والمعرفية، وستفرض نفسها بقوة أمريكا، وستعمل لصالحها في المنطقة.

طبعًا هذه الترتيبات قد لا تتحقق إذا ظهرت مبادرات مقاومة ورفض شعبي في المنطقة تعرقل تحقيق ذلك، لكن السياسة التي ترسم لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تتبلور من مقايضة كبيرة بين روسيا والولايات المتحدة. تاريخيًّا الروس يوسعون نفوذهم في المناطق الجغرافية المحاذية لهم ولم يتجاوزوها إلى ما وراء البحار والبلاد البعيدة، إذا استثنينا فترة قصيرة جدًّا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث حاولوا التواجد من خلال دعم حركات التحرر ضد الاستعمار وبناء تحالفات سياسية وعسكريه لم تصمد طويلًا.

في هذا الخضم من الصراع والأحداث المتسارعة لا يزال بعض الأطراف الليبية يبنون على توافق دولي حول القضية الليبية ويراهنون على أطراف ستصبح عاجلًا وليس آجلًا خارج التأثير وربما خارج التاريخ، فأوروبا وتركيا ودول الخليج لا شك هي جزء من ترتيبات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وسيسري عليها ما يتفق عليه في الترتيبات لما بعد الحرب.

التعويل على ظهور قوى ليبية وطنية تؤمن بحق بلادها في الاستقلال والحرية تنتزع زمام المبادرة من الأطراف الخارجية وتشكل أمرًا واقعًا سيفرض نفسه على طاولة الترتيبات الجديدة، خاصة وأن ليبيا رغم أهمية موقعها الجغرافي لا تشكل أهمية كبرى للعالم من الناحية الاقتصادية، فهي محدودة الثروات قليلة الموارد متعددة المخاطر.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى