مقالات الرأي

المحاكمة عن بعد استنادًا إلى حالة الضرورة

بقلم/ غادة الصيد

من المبادئ الأساسية في المحاكمات الجنائية، العلنية، والمواجهة بين الخصوم، وشفوية المرافعة، وهذه المبادئ تقتضي عقد جلسات المحاكمة علنًا بحضور المتهمين ودفاعهم، وأطراف الدعوى المدينة إن وجدت، وحضور الشهود، مع السماح للجمهور بالحضور دون تمييز.

ومخالفة أي مبدأ منها يترتب عليه بطلان الإجراءات بطلانًا مطلقًا لتعلقه بالنظام العام، ولكن هذه المبادئ لا يعمل بها دائمًا علي نحو مطلق، فقد تقتضي الضرورة الخروج عليها، ومفهوم الضرورة هنا هو الحالة التي تبيح مخالفة الشكل الإجرائي لحماية المصلحة الأجدر بالرعاية، وتطبيقًا لحالة الضرورة خرج المشرع عن هذه المبادئ في عدة حالات أهمها: جعل المحاكمة سرية على نحو كلي أو جزئي لمراعاة النظام العام أو الحفاظ على الآداب (مادة 241 إجراءات جنائية)، محاكمة الحدث في جلسة سرية وإبعاده عن الجلسة عند سماع الشهود (مادة 324 إجراءات جنائية)، وإبعاد المهتم عن الجلسة في حالة التشويش على المحكمة (مادة 234/2 إجراءات جنائية ).

صدر القانون رقم (7) لسنة 2014 بشأن تعديل بعض أحكام قانون الإجراءات الجنائية، ونص في مادته الأولى إضافة فقرة ثانية للمادة (241) تنص على أنه (تعتبر الجلسة علنية إذا تم نقلها مباشرة إلى الجمهور عبر قناة فضائية أو أكثر أو من خلال الشاشات العامة أو رسائل الاتصال الأخرى)، كما نصت المادة الثانية منه على إضافة فقرة ثالثة للمادة 243 يكون نصها (وفي حالات الضرورة التي يخشى فيها على سلامة المتهم أو يخاف فيها من فراره يجوز للمحكمة الاستعانة بوسائل الاتصال الحديثة لربط المتهم بقاعة الجلسة واتخاذ الإجراءات في مواجهته بهذه الطريقة، وينطبق هذا الإجراء على الشهود والخبراء والمدعي بالحقوق المدنية والمسؤول عنها إذا توافرت شروط الضرورة التي يترك للمحكمة تقديرها وفقًا للظروف والأحوال التي تجري فيها المحاكمة).

ويبين من هذين النصين أن المشرع الليبي أخذ بنظام المحاكمة عن بعد للضرورة، ووسع من مفهوم العلنية والمواجهة بين الخصوم، من خلال الاعتداد بالحضور الافتراضي للمتهم وبقية الخصوم والجمهور، باستعمال وسائل الاتصال والتقنية الحديثة بدلًا من الحضور المادي، والضرورة هنا تتمثل في الخشية على سلامة المتهم أو متى خيف فراره.

وبغض النظر عن الظروف التي صدر فيها النص فإنه يسري على جميع الحالات التي تتوفر فيها شروط الضرورة، وحيث إنه من بين حالات الضرورة التي كانت في هذه الفترة تهدد الأمن الصحي في البلاد انتشار فيروس كورونا الذي اعتبرته منظمة الصحة العالمية جائحة وترتب عليه اتخاذ عدة تدابير وإجراءات صارمة في معظم بلاد العالم، وقامت العديد من الدول، ومن بينها ليبيا، بإغلاق حدودها لتفادي انتقال العدوى، وأغلقت أماكن التجمعات ومن بينها المحاكم، الأمر الذي أدى إلى تعطيل قبول الدعاوى، وتأخير الفصل في القضايا المعروضة، ما أربك العمل في المحاكم، وإلى اكتظاظ السجون بالموقوفين، وأصبحت الحاجة ملحة للخروج من هذا المأزق بسبب ما خلفته جائحة كورونا، وذلك بتطبيق نصي المادتين 241/2 و243/3 باعتبار أن حالة الضرورة قد توافرت شروطها، حيث هناك خطر جسيم حالّ يهدد الأمن الصحي، وينعكس على كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية والقانونية.

الجدير بالملاحظة أن تطبيق النصين المذكورين سلفا خلال فترة انتشار الأوبئة ومنها فيروس كورونا يبرر إجراء المحاكمة عن بعد لأن المادة 243/3 إجراءات جنائية اشترطت لإجراء المحاكمة عن بعد أن تتوافر حالة الضرورة التي تتمثل في الخشية على سلامة المتهم، ويتضح أن المشرع لم يقيد الخشية بخطر محدد، فكلما توافرت الخشية توافر مبرر تطبيق النص، وهذا ما يدخل فيه بلا شك الخشية على المتهم، وبقية أطراف الدعوى والشهود والجمهور من انتقال العدوى والإصابة.

من خلال المطالعة الظاهرية للنص المذكور أنه لم يسمح صراحة بانعقاد جلسة المحاكمة في قاعة افتراضية، وإنما أشار إلى قاعة الجلسة، حيث جاء فيه (يجوز للمحكمة الاستعانة بوسائل الاتصال الحديثة لربط المتهم بقاعة الجلسة)، ويفهم من ذلك أنه يجب أن تكون هناك جلسة منعقدة وفقًا لنظام المحاكمة عن بعد، لأن هناك فرقًا بين مفهوم الاتصال بالمحاكمة عن بعد، ومفهوم المحاكمة عن بعد، فالأول يعني أن تنعقد المحكمة بشكلها التقليدي في قاعة المحكمة، ويتم ربط المتهم أو أي من أطراف الدعوى أو الشهود بالمحكمة من خلال وسائل الاتصال من مكان وجوده، أما مفهوم المحاكمة عن بعد فهو يختلف جذريًّا عن نظام المحاكمة التقليدي، لأن المحكمة وفقًا لهذا النظام سوف تنعقد في وسط افتراضي دون حاجة إلى الاجتماع المادي لهيئة المحكمة أو أطراف الخصومة.

إن حالة الضرورة المنصوص عليها في المادتين (241/2 ) و(243/3) إجراءات جنائية تبرر إجراء المحاكمة عن بعد في حالة الخطر التي سببها وباء كورونا، لأن المقصود بالضرورة هنا هو التحوط والخشية حتى لا تكون المحاكمة سببًا في تعريض سلامة أطرافها للخطر، وهذا يعني أن نظام المحاكمة عن بعد الذي استحدثه قانون الإجراءات الجنائية يسمح بعقد جلسة المحاكمة في قاعة افتراضية، ويترتب على ذلك أنه لا يشترط الاجتماع المادي لهيئة المحكمة في مكان واحد، وإنما يجوز أن يبقى كل عضو في مكان تواجده طالما أن وسائل الاتصال تسمح باجتماعهم في قاعة افتراضية، ولا جدال في أن اختصاص المادة المذكورة سلفًا قد منحت المحكمة التي تنظر الدعوى اختصاص تقدير الحاجة إلى إجراء المحاكمة عن بعد غير أن ذلك لا يعني أن تكون وحدها صاحبه الاختصاص، بل يختص أيضا المجلس الأعلى للقضاء.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى