ما الإنسان؟ المداخلة الثامنة: (كان) وتمظهراتها
بقلم/ مهدي أمبيرش
في هذه المداخلات والمداخلات السابقة نحاول أن نقدم قراءة لسانية عربية، في اللسان العربي، وفي تمظهر هذا اللسان الذي يكشف عن منهج التفكير، من خلال وسائل التعبير والآتي منها التعبير الصوتي أو من خلال العلامات والإشارات وغيرها.
لقد أكدنا أن الأسلوب الوصفي في الإعراب أسلوب غير منتج؛ لأنه تحصيل الحاصل ولا يضيف شيئًا، وأننا بهذا نقدم نقدًا لكل العمليات الوصفية التي يعتمدها منطق المعرفة أو التحقق منها، أو الحكم فيها، كما في جامعاتنا اليوم، التي تنتهج هذا الأسلوب، بل وتقدمه على أنه منهج في البحث، في حين أنه أسلوب من أساليب الحكم.
لقد ذكرنا أن الكلمة في العربية ليست اللفظ، بل إن الكلمة مشيئة وإرادة في الذهن ووعي، ومن ثم فإنها خلق وإبداع، وهي مسؤولة كذلك، وهذا يقودونا إلى البحث في العمليات التي تتم في الذهن.
لقد نوهنا إلى أن منهج التفكير البياني العربي هو منهج حيوي، فوسائل التعبير والحركات التي يستخدمها القواعديون في الإعراب، كالضمة والفتحة والكسرة والسكون هي إشارات ظاهرة لتلك العمليات في الذهن التي قلنا إن العلاقة هي علاقة خلوية حية ومتحركة، وهي خلاف منهج التفكير الأعجمي الذي يتأسس على قانون المادة والعلاقات الذرية والتركيب الشكلي، التي قال فيها اللساني السويسري، دو سوسير، إنها لا تحمل مفاهيم في نفسها، وإن العلاقة بين الدال والمدلول هي علاقة اعتباطية، في حين أن الحرف في العربية له مفهومه، والقاعدة تقول تأكيدًا على ذلك، إن زيادة المبنى تدل على زيادة في المفهوم، كما أن المفهوم هو دليل المعنى وبعضه، ويعترف القواعديون عندنا بذلك ضِمنًا دون أن ينتبهوا إليه، فنجدهم يقولون: إن الإعراب فرع المعنى، أي أن المفاهيم الإعرابية ليست المعنى في إطلاقه، إنما نقوم به للبرهنة على أن منهج التفكير البياني العربي صالح للكشف عن فلسفة عربية خالصة ومتميزة، مع ملاحظة أن كل المدارس الفكرية في العالم قديمها وحديثها إنما تقوم على الدراسات اللغوية التي تكشف قياسًا بالعربية عن ألسنة مختلفة.
إن الفلسفة مشروع منفتح على المعنى، في حين أن المنطق أحكام على موضوع، ولهذا فرقنا بين العمليات الذهنية في الذهن وقدرتنا على التصور والتخيل والإبداع التي هي غير منطق الأحكام أو المفاهيم التي يتمظهر من خلالها منهج التفكير اللساني.
في مداخلات سابقة تحدثنا عن أن الله تعالى هو موجد الوجود، وأن الوجود يتمظهر في الموجود، فإننا على سبيل المثال ذكرنا أن (إنَّ)، هي تأكيد الموجودية للموجود، وليس لكينونته، فإذا قلنا مثلًا إن محمدًا في الفصل، نفهم منه تأكيد موجودية محمد أو تحيزه داخل جدران الفصل، أي في ظرف محدود، وهذا يأتي من أن حرف النون يدل على الموجودية، وأن مضاعفة النون تأكيد عليها، أما في استخدامنا (كان) فإننا نتقدم خطوة من الموجود إلى الكائن، فقولنا كان محمد في الفصل، هو أبعد من أنه موجود، أي أنه يؤكد الموجودية في المحدود الظرفي المتحقق، ولكنه ليس في الفصل الآن.
هنا ننفي قول معلمي القواعد من أن لـ (أن) أخوات ولـ (كان) أخوات، بل في كليهما تمظهر، إما للموجودية أو لتمني الموجودية أو الترجي أو التشبيه بموجود، وإن (كان) تتمظهر من خلال الظرف، فهي تشمل بعد الظرف الذي يتحول إلى مكان وإلى إمكانية من خلال التغير الذي نفهمه من الفعل (صار).