مقالات الرأي

“القطيعة التامة” أم واقع معقد؟ من تقرير 1996 إلى طوفان الأقصى 

بقلم/ فراس الحجازي

في عام 1996، أعدَّت مجموعة من المحافظين الجدد في الولايات المتحدة تقريرًا بعنوان “A Clean Break: A New Strategy for Securing the Realm” لصالح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، حيث كان الهدف الرئيسي للتقرير تحويل إسرائيل إلى قوة إقليمية تعتمد على الهجوم بدل الدفاع، مع التركيز على عدة محاور استراتيجية، أبرزها رفض “الأرض مقابل السلام” عبر تجنب التنازلات الإقليمية والاعتماد على القوة العسكرية والدبلوماسية، وإضعاف الأنظمة المعادية عبر إسقاط صدام حسين وإضعاف النظام السوري، بالإضافة إلى عزل سوريا من خلال استهداف نفوذها في لبنان وتقويض دورها الإقليمي. كما أوصى التقرير بتعزيز التحالفات عبر بناء شراكات مع الأردن وتركيا لمواجهة التهديدات المشتركة، وإضعاف حزب الله وإيران عبر قطع خطوط الإمداد ومواجهة النفوذ الإيراني، إلى جانب تحقيق الاستقلال الاقتصادي من خلال تقليل الاعتماد على المساعدات الأمريكية.

بعد 27 عامًا من صدور التقرير، شهدت المنطقة تحولات كبرى أعادت طرح تساؤلات جوهرية حول مدى نجاح الاستراتيجية التي حددها التقرير، وما إذا كانت قد واجهت عقبات غير متوقعة. تمثَّل النجاح الأبرز في إضعاف العراق وسوريا، حيث تحقق ذلك أولًا بسقوط نظام صدام حسين بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، ما أزال تهديدًا عسكريًّا مباشرًا، ثم بسقوط نظام الأسد في سوريا، وهو ما أسهم في إضعاف إيران وحزب الله، حيث فقد الأخير خطوط إمداده الرئيسية، ما أضعف قدرته العسكرية بشكل كبير. كما أن الاغتيالات التي استهدفت قادته، إضافة إلى الضغوط الداخلية في لبنان، جعلته يواجه أكبر أزمة وجودية في تاريخه. أما على صعيد التحالفات والتطبيع، فقد نجحت إسرائيل في بناء علاقات قوية مع دول عربية، وشهدت المنطقة موجة من اتفاقيات التطبيع، ما عزز مكانتها الإقليمية.

لكن رغم هذه النجاحات، واجهت إسرائيل إخفاقات كبرى، كان أبرزها انهيار وهم “الأمن المطلق”، حيث كشف هجوم السابع من أكتوبر ضعف المنظومة الأمنية الإسرائيلية، إذ لم تتمكن إسرائيل من التنبؤ بالهجوم أو منعه، ما هزَّ ثقة الجمهور الإسرائيلي بمفهوم “الأمن المطلق”. كما أعادت “عملية طوفان الأقصى” القضية الفلسطينية إلى الواجهة، بعد أن كانت تتجه نحو التهميش عبر اتفاقيات التطبيع، حيث أدى الهجوم إلى تعطيل مسار التطبيع مع بعض الدول العربية وإعادة القضية الفلسطينية إلى مركز المشهد الدولي. بالإضافة إلى ذلك، فإن تعاظم النفوذ الإيراني شكَّل عقبة غير متوقعة، فبالرغم من إسقاط صدام حسين، لم تحقق إسرائيل هدفها بإضعاف إيران، بل على العكس، أصبحت بغداد تدور في الفلك الإيراني، ما شكَّل تهديدًا استراتيجيًّا جديدًا. كما أن التطورات الأخيرة كشفت تحولًا في النهج الأمريكي تجاه الفصائل الفلسطينية، حيث فتحت الولايات المتحدة قنوات اتصال مباشرة مع حماس للتفاوض على إطلاق سراح الرهينة الإسرائيلي-الأمريكي أفرام ألكسندر، وهي خطوة غير مسبوقة تعكس تغيرًا في السياسة الأمريكية.

رغم تحقيق إسرائيل بعض الأهداف التي حددها التقرير، أثبتت الأحداث الأخيرة أن الاعتماد على القوة وحدها لا يمكن أن يحقق استقرارًا دائمًا، وأن أي حل مستدام في المنطقة يتطلب معالجة القضية الفلسطينية بشكل جوهري. اليوم، تجد إسرائيل نفسها أمام مفترق طرق: إما أن تواصل نهجها الأمني والعسكري رغم التغيرات الجذرية في المنطقة، أو أن تراجع سياساتها وتسعى إلى حلول سياسية أكثر استدامة. لكن ما يبدو واضحًا حتى الآن هو أن تجاهل جذور الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي سيظلُّ عائقًا أمام أي استراتيجية، حتى وإن بدت ناجحة على المدى القصير.

زر الذهاب إلى الأعلى