دور المحكمة العليا في توحيد تفسير القانون
بقلم/ غادة الصيد
تفسير القانون عملية ذهنية تجري على أصول المنطق، وهو ضرورة تلازم النص المكتوب، وغايته تحديد مضمون النصوص القانونية تحديدًا واضحًا والوقوف على ما تتضمنه من فروض وأحكام، وعرفته المحكمة العليا بأنه تحديد المعنى المقصود للمشرع من لفظ النص، والمشرع الوضعي مهما كان حريصًا على انتقاء الألفاظ والعبارات عند صياغة نصوص التشريع، فإن عمله لن يتصف بالكمال، وهذا أمر طبيعي، لأن الخطأ من شيم البشر، ولذلك عندما يتم تطبيق النصوص التشريعية، فإن الواقع العملي يكشف عن أن هناك غموضًا ونقصًا في بعضها، ومن ثم أصبح لزامًا لتفادي هذه النتائج اللجوء إلى تفسير هذه النصوص، حتى يمكن تطبيق القانون على الوجه الصحيح.
وتختلف أنواع التفسير حسب الجهة التي تقوم به، فإذا قامت الجهة التي أصدرت التشريع أو الجهة التي تفوضها بتفسيره، سمي تفسيرًا تشريعيًّا، وإذا قامت به جهة الإدارة سمي تفسيرًا إداريًّا، وإذا قام به الفقه، سمي تفسيرًا فقهيًّا، وإذا قامت به المحاكم عند الفصل في الدعاوي المنظورة أمامها، سمي تفسيرًا قضائيًّا.
ولما كانت وظيفة القضاء هي تطبيق القانون، فإنه بالتأكيد لا يمكن تطبيقه قبل تفسيره، فالقضاة عند عرض النزاع عليهم للفصل فيه، يبحثون في معنى النصوص، ودلالاتها، ويحيطون بأحكامها، ثم يطبقونها على الواقعة المعروضة عليهم، ولذلك قيل بحق إن تفسير القانون من صميم اختصاص القضاء، وأمام تعدد المحاكم واختلاف درجاتها، فإنه حتمًا سوف يكون هناك اختلاف في تفسير النصوص القانونية، وهذا الاختلاف في التفسير يؤدي بالطبع إلى تعارض الأحكام الصادرة بشأن الوقائع المتماثلة، مما يترتب عليه انعدام المساواة بين الأفراد أمام نصوص القانون، ولذلك كانت الضرورة ملحة لإيجاد محكمة عليا تقف على قمة الهرم القضائي لكي تحسم الخلاف في تحديد كلمة القانون وتفرض الحل القانوني للنزاع عن طريق التفسير الموحد للقانون، وهذه هي الوظيفة الأساسية التي أنشئت من أجلها المحكمة العليا، حيث إنه لا يتأتى احترام القانون وحسن تطبيقه إلا من خلال توحيد تفسير النصوص القانونية، أي وحدة المبادئ التي تقررها المحكمة العليا، ولمنع تعارض الأحكام التي تصدرها المحاكم الأدنى، بالإضافة إلى التزام المحكمة العليا ذاتها بالمبادئ الصادرة عنها، لأن عدم الالتزام بتلك المبادئ يجعل القضاة يخالفون القانون بدلًا من أن يطبقوه، وبناءً على ذلك فإن المحاكم الأدنى ملزمة باتباع التفسير الذي تراه المحكمة العليا في أحكامها عملًا باحترام مبدأ التدرج القضائي، وأن أي حكم يصدر بالمخالفة للمبادئ التي سبق وأن قررتها المحكمة العليا يعد باطلًا، لمخالفته أحكام قانون المحكمة العليا وليس القانون الذي طبق على الواقعة.
ومن مميزات هذا الالتزام القانوني من جانب المحاكم الأدنى، أنه يؤدي إلى توحيد القضاء من خلال توحيد تفسير القانون على نحو ملزم، ويرفع من هيبة وشأن المحكمة العليا، ويؤدي إلى الاستقرار القانوني في الدولة وتحقيق المساواة بين الأفراد أمام القانون، ومن المسلَّم أن التفسير القضائي غير ملزم كمبدأ عام، ويقتصر أثره على الدعوى التي فصلت فيها المحكمة، ولا يتعداه إلى قضية أخرى، ولو كانت مشابهة لها، عملًا بمبدأ حجية الشيء المقضي به التي تثبت للحكم، كما أنه لا يلزم أي محكمة أخرى ولو كانت درجتها أدنى من تلك التي قامت بالتفسير، ولقد خرج المشرع الليبي على هذه القاعدة، بالنسبة إلى المحكمة العليا، حيث نصت المادة (31) من القانون رقم (6) لسنة 1982 بشأن إعادة تنظيم المحكمة العليا، حيث نصت على أنه (تكون المبادئ القانونية التي تقررها المحكمة العليا في أحكامها ملزمة لجميع المحاكم وكافة الجهات الأخرى في ليبيا).
ومفاد هذا النص أن الأحكام الصادرة عن المحكمة العليا وتقرر فيها مبادئ قانونية، فإن تلك المبادئ ملزمة لكافة المحاكم والجهات الأخرى، أما الأحكام التي لا تتضمن أي مبادئ قانونية وإنما مجرد تطبيق محض للقانون فهي ليست التي يقصدها المشرع في المادة (31) المذكورة، وتطبيقًا لذلك فإنه على كافة المحاكم والجهات الأخرى في ليبيا الالتزام بما تقرره المحكمة العليا من مبادئ في أحكامها، فلا يحق لها أن تهدر ما تضمنته تلك المبادئ من قواعد قانونية أو تعارضها أو تقضي على خلافها، لما تتمتع به تلك المبادئ من قوة مصدرها وأساسها القانون.
وعلى كل حال فإن مسألة التمييز بين أحكام المحكمة العليا التي تتضمن مبادئ قانونية وتلك التي لا تحوي ذلك، أمر غير صعب على المختصين في القانون، والجدير بالملاحظة في هذا الشأن أن طبيعة الالتزام بالنسبة إلى التفسير الذي تقوم به المحكمة العليا بواسطة المبادئ التي تضعها في أحكامها، هو إلزام قانوني وليس إلزامًا أدبيًّا، ويترتب على ذلك أنه لا خيار للمحاكم الأدنى درجة في الالتزام أو عدم الالتزام بالتفسير الذي تضعه المحكمة العليا في المبادئ التي تقررها، بل يجب عليها الالتزام بتلك المبادئ عند إصدار أحكامها، فإذا لم تتقيد إحدى المحاكم بما أرسته المحكمة العليا من مبادئ قانونية، أو حادت عنها أو عارضتها بأي وجه، فإن حكمها يكون مشوبًا بعيب مخالفة القانون، ويكون مآله النقض، ففي ذلك تحقيق للعدالة من ناحية، وضمانة للاستقرار القانوني من ناحية أخرى، حيث إنه ليس من العدل اختلاف أحكام القضاء في نزاعين متماثلين، إذ إن اختلاف تطبيق القانون في المسائل الواحدة من شأنه أن يزعزع ثقة الخصوم في القضاء، ويبعث إلى الاضطراب في الحياة القانونية.