مقالات الرأي

ما الإنسان؟ المداخلة السابعة: (كان) وتمظهراتها

بقلم/ مهدي أمبيرش

مرارًا دعوت إلى ضرورة العودة وبتمعن إلى قراءة لقواعد النحو العربي وإلى اللغة من أجل العودة إلى التفكير في النحو العربي واللسان العربي؛ ذلك لأن اللغة العربية هي بمثابة العلامة على اللسان، وأن اللسان دليل منهج التفكير العربي، أي العمليات التي تتم في الذهن، وأن الله تعالى عندما أكد على اختلاف الأمم، لم يقل باختلاف لغاتها، باختلاف ألسنتها وألوانها، من ثم فإننا عندما نتوقف عند قواعد النحو، تكون العملية كمن يتوقف عند قواعد البيت، متجاهلًا، ليس البيت فحسب، بل كل العمليات التي سبقت إنجاز البيت حتى تم نصبه، فالفكرة التي تمت في الذهن ستكشف عن الهدف من البناء، وأن الهدف هو الذي يوصل إلى الغاية، أي أن الهدف ليس الغاية بذاته، فإذا كانت الفكرة بناء مسجد، فإن كل العمليات التي تدور في الذهن ستتجه إلى التفكير في تحويل هذه الفكرة الموجودة في الذهن إلى منجز، هو المسجد، هنا سيكون بُعدٌ آخر عند وضع خريطة بناء المسجد بعامة، أي يتحول التفكير إلى مشروع بناء، أي التفكير في المشروع، من خلال المفاهيم الاشتقاقية للفعل (شرع): إمكانية الشروع فيه، والشارع، ونقصد به مسار التنفيذ، والجانب الوجداني أو الشعوري، وعملية السمو أو العروش، أو عملية الارتفاع، أو النصب للمسجد، وقد تأخذ بعدًا روحيًّا فيكون القصد إرضاء الله تعالى.

قد يستفهم أحد؛ ما علاقة هذا بـ (كان) وتمظهراتها من خلال فكرة بناء مسجد مثلًا؟ هنا نذكركم بالذي ذكره أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ في كتابه (البيان والتبيين) إلى أن هنا نوعًا من أساليب البيان، قال إنه البيان بالنصبة، ويقصد حسب قراءتي، أن المسجد في فكرته ودوره وتصميمه والغاية منه، ليس الكنيسة مثلًا، فخريطة المسجد تفرض أن يكون مربعًا، وأن يراعى فيه أن تكون مساحته في الداخل بالقدر الذي يسع المصلين وبقدر القدرة على البناء، فهناك الكثير من الشروط والاشتراطات لابد من توفرها، هذا إضافة إلى مكان المنبر والمئذنة والمرافق الملحقة، وهكذا. 

ومن الناحية البيانية، فإن من المهم الدراية بتصميم المساجد، حيث سيقول أحدهم، يرى المبنى لأول مرة: هذا مسجد لأداء الصلاة للمسلمين، هذا بخلاف الكنيسة، ربما تكون مواد البناء واحدة، وربما القانون الهندسي لرفع القواعد وما إليها واحدًا، ولكن الهدف والغاية تحدد الخريطة وعمليات البناء، كأن يكون الشكل مستطيلا يتلاءم مع الصليب، ويكون بدل المئذنة في المسجد، مكان للنواقيس، وهكذا.

هنا تكون العملية البيانية واضحة، تأسست على منهج التفكير، وكل مكونات هذا المنهج العقدية والثقافية، وتكون كل العمليات التي تمت في الذهن، وتحديدًا التي ذكرنا أنها الخريطة، في الجملة العربية هي هذه الخريطة، وكما تختلف الخريطة كالذي ذكرنا في الفرق بين المسجد والكنيسة أو أي مكان للعبادة باختلاف المعتقدات، يكون الفرق في نهج بناء الجملة، التي قلنا، عنها في سبيل المقارنة، إن منهج التفكير البياني العربي منهج حيوي يجعل من الحرف في الذهن بمثابة الخلية، وتكون الكلمة بمثابة العضو، وبصورة أكبر تكون الجملة والعبارة ويكون الجسد في عملية الكلام جسدًا واحدًا، وأن أي خلل فيه يؤثر في كل العملية، والصورة أمامنا جسد كائن حي متنفس، وفوق هذا له روح، تكشف عن روح الأمة، ولهذا قلنا إن الخط مهم جدًّا في عملية البيان على أنه رمز خارجي مبصر بالعين وقد نسمعه بالأذن، أي من خلال عضوين من أعضاء الإدراك، هنا تكون إشارات الإعراب رمزًا للحركات الداخلية للجسم الحي، ويكون الإعراب شاملًا لمبحث الإشارة والسيمياء والعلامة، حيث نرسم العين في الخط، عينًا مفتوحة أو مقفلة، ويكون السكون دائرة مقفلة، وتكون النون انفتاحًا في الدائرة نقول عنه إنه دليل الموجودية، التي نجدها في الضمير (أنا) وأن الضمير ليس معرفة إلا لإنه ضمير لمعرفة لم تظهر.

لقد سبق أن أشرنا في عجالة إلى أن حرف النون في الذهن، الذي نشير إليه بالرمز الخطي (ن) يدل على الموجودية، والموجودية تقودنا إلى أنها موجودية منطقية، ونقصد بها أنها وضعية كذلك، ذلك أن الموجود يتخذ وضعًا، ويشغل حيزًا، ويكون لوضعه حدود، هي التي تقول عنها إنها منطقية، أو إنها المنطقة التي يتحيز داخلها المحدود، ولأنه كذلك، يمكن أن يصير قضية منطقية تامة الأركان كتلك التي ينظر إليها في قضايا الأحكام لأنها مُحكمة، فلا أحكامًا، بفتح الألف، إلا بأحكام.

هنا نجد أن (إن) التي يقول القواعديون إنها حرف توكيد ونصب؛ ترجعنا أولًا إلى المفهوم الأصلي للنصب، أي التعب، وإلى الإشارة الخطية في رسمه خطًّا أفقيًّا في الإشارة إلى العلامة الأصلية، وكأنه منبطح، حيث النصب في الأساس، التعب، وأن التشديد بمضاعفة النون تأكيد للموجودية، كما أن الذي يقولون عنه أخوات إن، ليس إلا تمظهرات للموجودية، التي ذكرنا ارتباطها بسؤال الوجود والعدم في فلسفة اللسان العربي، والتي قد نعود إليها في عرض قادم، على أساس أنها من القضايا الفلسفية القديمة المتجددة، والتي ترتبط هي الأخرى بمناهج التفكير التي سنعرضها ضمن دراسات مقارنة بالألسن الأعجمية منذ أفلاطون إلى مدارس اللغة الحديثة التي تؤكد اختلاف مناهج التفكير ومدارس التفكير القديمة المتجددة، هذه المقدمة تقودنا في المداخلة القادمة إلى الحديث عن (كان) الفعل الناقص، وتمظهرات الكينونة من خلال صيرورة الزمن، وأن الكينونة تعقب الموجودية.

زر الذهاب إلى الأعلى