مقالات الرأي

العالم يتغير.. فهل نحن مستعدون؟

بقلم/ فراس الحجازي

يعيش العالم اليوم تغيرات جذرية تعيد رسم ملامح النظام الدولي، فلم يعد المشهد كما كان قبل سنوات. القوى التقليدية تضعف، وتظهر تحالفات جديدة وصراعات غير متوقعة. الحرب في أوكرانيا كشفت هشاشة أوروبا وأضعفت الناتو، وأظهرت الاتحاد الأوروبي منهكًا اقتصاديًّا وعسكريًّا رغم الدعم الأمريكي. ثم جاءت حرب غزة، التي غيرت قواعد اللعبة في الشرق الأوسط. فالهجوم غير المتوقع للمقاومة الفلسطينية أربك إسرائيل، وأثبت أن أمنها لم يعد محصنًا كما كان يُعتقد. ورغم القصف العنيف، لم تحقق إسرائيل انتصارًا واضحًا، ما دفع حلفاءها إلى مراجعة سياساتهم.

تبع ذلك سقوط النظام في سوريا، ما فتح الباب أمام سيناريو التقسيم والحرب الطائفية، وشكَّل ضربة قاسية لما يُعرف بـ”محور المقاومة”. كانت هذه صدمة كبرى لإيران، التي خسرت أحد أهم حلفائها، ووجدت نفسها محاصرة أكثر من أي وقت مضى. أما حزب الله، فقد بات في وضع حرج، حيث لم يعد بإمكانه الاعتماد على سوريا كقاعدة خلفية، مما جعله أكثر عرضة للضغوط الإسرائيلية والأمريكية.

عاد ترامب إلى البيت الأبيض حاملًا معه أجندة مغايرة تمامًا لسلفه بايدن. فوزه يعني تغييرات جذرية في السياسة الأمريكية، من تقارب جديد مع روسيا قد يؤدي إلى إنهاء الحرب الأوكرانية بشروط لا ترضي أوروبا، إلى فتور في العلاقات مع الناتو، ما يهدد بانفكاك التحالف العسكري الأهم للغرب. في الشرق الأوسط، فتحت واشنطن قنوات تواصل مباشرة مع حماس للتفاوض حول إطلاق سراح الأسرى الأمريكيين، ما أزعج إسرائيل وأثار تكهنات حول إمكانية تراجع أمريكا عن دعمها غير المشروط لها.

وعند الحديث عن حال العرب اليوم يجب التطرق إلى العامل النفسي الذي يعمِّق الإحساس بالهزيمة. فبعد قرون من السيطرة العثمانية والاستعمار الأوروبي، جاءت مرحلة ما بعد الاستقلال، كان من المفترض أن تكون هذه مرحلة النهوض الذي لم يكتمل في ظل الصراع بين جمهوريات تقدمية وملكيات رجعية مهزومة عميلة، ما أدى إلى إحباط أعمق. لم تحقق الحكومات وعودها، ولم تكتمل الثورات، ولم ينته الاحتلال، بل أعاد تشكيل نفسه بأشكال جديدة عبر التبعية الاقتصادية والسياسية.

لكن الأزمة ليست فقط في الحكومات، بل في الشعوب أيضًا. فقد ترسخت ثقافة الاتكالية، حيث ينتظر الناس الحلول من الغيب أو من زعيم يعيد الأمجاد. يُقال: “كل شيء مكتوب”، فلماذا نحاول تغييره؟ هناك اعتقاد بأن العالم يسير وفق سيناريو إلهي محدد سلفًا، ولا اعتراض على أمر الله، فالمطلوب فقط هو أداء الفرائض.

هذا التناقض الكبير! إذا كانت العبادة وحدها تكفي، فلماذا يقول الله: “إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ”؟ لماذا يأمرنا بالسعي والعمل وليس فقط بالدعاء؟ كيف نهمل مسؤولياتنا بحجة أن “كل شيء مقدر”، بينما نبذل جهدنا في أمور الحياة اليومية؟

لا يمكن الحديث عن واقعنا الحالي دون التطرق إلى ما يسمى “الربيع العربي”، الذي جاء مخيبًا للآمال. المثير أن كل الدول التي تأثرت كانت أنظمة جمهورية، بينما بقيت الملكيات العربية في مأمن، رغم أن الظروف التي أدت إلى الاحتجاجات كانت متشابهة. هل هي صدفة، أم أن هناك مصالح دولية فرضت هذا الاتجاه؟

ما يزيد الشكوك هو أن هذه الثورات حظيت بدعم غربي غير مسبوق، رغم أن الغرب لم يكن يومًا صديقًا لطموحات الشعوب العربية. لماذا الآن؟ لماذا كانت الدول المتأثرة بالثورات دولًا معادية للهيمنة الغربية؟ ولماذا كانت النتيجة وصول قيادات دينية إلى الحكم؟

الشعوب، التي عاشت لسنوات طويلة معتقدة أن تخلفها عقاب إلهي بسبب ابتعادها عن الدين، وليس نتيجة الجهل وتسليم عقولها لمشايخ يحللون ويحرمون وفقًا لمصالحهم فتصدر الإخوان المسلمون المشهد، وطرحوا فكرة “الإسلام هو الحل” وهدف “الخلافة الإسلامية”، وبدلًا من مواجهة الواقع وتطويره، اختارت هذه الشعوب العودة إلى الماضي.

الغرب يرحب بالأنظمة التي تخدم مصالحه، ويحارب أي تجربة وطنية تحاول الاستقلال بقرارها. الغرب الذي يتحدث عن الديمقراطية، هو نفسه الذي يدعم أنظمة قمعية طالما أنها تحقق له الاستقرار الذي يريده. وهكذا، تصبح المعادلة واضحة: لا مكافأة لمن يحاول النهوض، ولا عقوبة لمن يكرس التخلف.

التاريخ لا يسير في خط مستقيم. وكما سقطت إمبراطوريات كبرى لم يكن أحد يتوقع زوالها، فإن القوى العظمى اليوم ليست في مأمن من الانهيار. هناك سيناريوهات قد تشكل فرصة للعرب: أزمة اقتصادية عالمية، إذا استمر التضخم والدين العام الأمريكي في الارتفاع، فقد تجد أمريكا نفسها غير قادرة على تمويل حروبها وحماية عملائها. أو حرب عالمية جديدة تشغل القوى الكبرى. أو تفكك داخلي في الغرب، فالانقسامات السياسية في أمريكا وأوروبا تتزايد، وإذا استمرت على هذا النحو، فقد نشهد تراجعًا كبيرًا في سيطرتهم على العالم.

لهذا لا يجب أن ننتظر هذه الفرص دون أن نستعد لها. والدليل على ذلك هو ما حدث في فلسطين. عندما انطلقت عملية طوفان الأقصى، لم يكن أحد يتوقع أن تصمد غزة كل هذا الوقت، ناهيك عن أن تهدد أمن إسرائيل، رغم أنها تمتلك أقوى جيش في المنطقة، وتدعمها أمريكا وأوروبا.

لكن ما الذي حدث؟ فصيل مقاومة صغير، بإمكانات متواضعة، استطاع أن يهدد إسرائيل. وأظهر ضعفها، واضطرت إلى طلب الدعم من أمريكا، وتحولت الحرب من “عملية أمنية” إلى أزمة دولية تهدد استقرار المنطقة كلها.

إذا كان يمكن لمقاومة صغيرة أن تحقق المستحيل، فلماذا لا تستطيع الدول العربية – بإمكاناتها الضخمة – أن تنهض؟ الإجابة واضحة: لا شيء مستحيل طالما أن هناك إرادة. الفرص لا تنتظر أحدًا، وعندما تأتي، إما أن نستغلها أو نضيعها كما ضاعت فرص سابقة، لنكرر سيرة أبو عبدالله الصغير ونبكي على الأطلال كما بكى على ملك لم يحافظ عليه مثل الرجال.

زر الذهاب إلى الأعلى