أزمة المالية العامة في ليبيا.. بين فائض الإيرادات وسوء الإدارة

بقلم/ عثمان الدعيكي
كشف تقرير مصرف ليبيا المركزي لشهر فبراير 2024 عن اختلالات جوهرية في المالية العامة، حيث يهيمن الإنفاق على الرواتب والدعم الحكومي على الميزانية، بينما تغيب الاستثمارات التنموية ومشروعات التنمية تمامًا. يثير التقرير تساؤلات حول كفاءة الحكومة في إدارة الموارد المالية وسط تفشي الفساد وضعف الرقابة، ما يهدد الاستقرار الاقتصادي على المدى البعيد.
ووفقًا للتقرير، فقد بلغ إجمالي الإيرادات العامة خلال فبراير 18 مليار دينار ليبي، جاءت 98% منها من مبيعات النفط والإتاوات من الشركات النفطية، ما يعكس استمرار الاعتماد الكلي على النفط. في المقابل، سجلت الإيرادات غير النفطية أرقامًا متواضعة جدًّا، حيث لم تتجاوز الضرائب 41 مليون دينار، والجمارك 12.5 مليون دينار، والاتصالات 26.2 مليون دينار، بينما لم تحقق مبيعات المحروقات المحلية أي إيرادات.
يكشف هذا التفاوت عن ضعف تحصيل الإيرادات غير النفطية، حيث لا تمثل الضرائب سوى 1% من إجمالي الدخل العام، بفارق كبير عن المعدلات العالمية التي تتراوح بين 15% و40%. يعود ذلك إلى تفشي التهرب الضريبي، وضعف الأنظمة الرقابية، وغياب استراتيجية لتنويع مصادر الدخل، ما يجعل الاقتصاد الليبي عرضة لصدمات أسعار النفط.
على الرغم من تسجيل فائض مالي خلال فبراير، بلغ إجمالي الإنفاق الحكومي 8.4 مليار دينار، ما يؤكد سوء التخطيط في توزيع النفقات. فقد استحوذت الرواتب على 5.9 مليار دينار، أي 70% من إجمالي الإنفاق، وهي نسبة مرتفعة مقارنة بالمعدلات العالمية التي لا تتجاوز 30%، ما يعكس تضخم القطاع العام بالوظائف الوهمية.
سجلت النفقات التسييرية 35 مليون دينار فقط، ما يعكس ضعف الاهتمام بتطوير المؤسسات والإدارات الحكومية. أما الدعم الحكومي فبلغ 2.5 مليار دينار، يُنفق معظمه على المساعدات الاجتماعية ودعم بعض الشركات دون وجود آليات رقابية واضحة.
المقلق في هذه الأرقام هو غياب أي إنفاق على التنمية، إذ لم يرد بالتقرير أي إنفاق على مشروعات البنية التحتية، وهو ما يتناقض مع السياسات المالية للدول المستقرة التي توجه ما لا يقل عن 40% من ميزانياتها نحو التنمية الاقتصادية.
ووفقًا للتقرير فإن أبرز التحديات التي تواجه المالية العامة في ليبيا تتمثل في الآتي:
- انعدام الإيرادات المحلية من بيع المحروقات، إذ بالرغم من حجم الاستهلاك المحلي الكبير، لم يسجل التقرير أي إيرادات من بيع الوقود، ما يعكس استمرار عمليات التهريب والفساد، وبيع كميات ضخمة من الوقود المدعوم في السوق السوداء داخل ليبيا وخارجها دون تحقيق أي عوائد مالية للدولة.
- توزيع غير عادل للإنفاق الحكومي، حيث كشف التقرير عن تفاوت كبير في توزيع الموارد. كمثال على ذلك، أنفقت وزارة الشؤون الاجتماعية 2.6 مليار دينار، بينما لم يتجاوز إنفاق قطاع الصحة 268 مليون دينار، وسجل قطاع التعليم مبالغ متواضعة جدًّا. يعكس هذا الخلل غياب التخطيط الاستراتيجي وضعف الحوكمة المالية.
- الاستخدامات الغامضة للنقد الأجنبي، إذ ورد بالتقرير أن إجمالي استخدامات النقد الأجنبي خلال فبراير بلغ 6.1 مليار دولار، تضمنت 38.3 مليون دولار للمرتبات بالخارج، و20.1 مليون دولار للعلاج بالخارج، بالإضافة إلى 225 مليون دولار لحوالات غير واضحة المصدر. يفتح ذلك الباب أمام تساؤلات حول الشفافية في إدارة النقد الأجنبي، خاصة في ظل غياب بيانات تفصيلية حول وجهة هذه الأموال، ما يعزز المخاوف من وجود عمليات فساد مالي منظمة تستنزف احتياطي الدولة.
ولتجاوز هذه الأزمة فإن الأمر يتطلب جملة من الإجراءات تتمثل في التالي:
- إصلاح النظام الضريبي من خلال تعزيز تحصيل الضرائب ومكافحة التهرب الضريبي، بما يضمن زيادة الإيرادات غير النفطية.
- إعادة هيكلة القطاع العام عبر ضبط كتلة الرواتب وتقليص الوظائف الوهمية التي ترهق الميزانية دون فائدة اقتصادية.
- تعزيز الشفافية والرقابة المالية بنشر بيانات تفصيلية حول استخدامات النقد الأجنبي وتخصيص الموارد وفق أولويات التنمية.
- إعادة توزيع الإنفاق بتوجيه جزء أكبر من الميزانية إلى الصحة والتعليم والبنية التحتية بدلًا من الإنفاق غير المُنتج.
- مكافحة تهريب المحروقات عبر وضع آليات رقابية لضمان تحصيل إيرادات بيع الوقود بدلًا من ضياعها في السوق السوداء.
إن استمرار النهج المالي الحالي دون إصلاحات جذرية سيؤدي إلى هشاشة مالية متزايدة تهدد الاستقرار الاقتصادي. يبقى مصير الاقتصاد الليبي مرتبطًا بقدرة مؤسسات الدولة على تبني سياسات مالية أكثر انضباطًا وشفافية، وإلا ستظل البلاد في دائرة الأزمات المالية المتكررة، ما ينعكس سلبًا على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي على المدى البعيد.