الحاجة إلى نظام حكم محلي ينهي المركزية ويبعد الانفصالية
بقلم/ محمد جبريل العرفي
مرت ليبيا بعدة تجارب في الإدارة، من فيدرالية الولايات، إلى مركزية المحافظات، إلى محلية الشعبيات، بدأت الفيدرالية وفشلت واستبدلت 1963 بنظام المحافظات، الذي استمر إلى ظهور الشعبيات ذات الصلاحيات الواسعة في إعداد خطط التنمية وتنفيذها، وتقديم الخدمات التعليمية والصحية والمرافق وغيرها، لكن المحاصصة وسوء الإدارة أجهضت التجربة، ولم يستفد الليبيون من فرصة إقامة حكم محلي حقيقي وصل لدرجة منح المؤتمر الشعبي الأساسي صلاحية سن قوانين محلية تطبق في نطاقة، مثلما جاء في القانون رقم 1 لسنة 1969 بشأن نظام عمل المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية، وهو قانون أساسي سامٍ نابع من وثيقة إعلان سلطة الشعب التي اتخذت القرآن الكريم شريعةً للمجتمع، أي لا حاجة لدستور وضعي تعدله أو تعلقه أو تلغيه أداة الحكم كما يروق لها.
ظهرت صرعة الأقاليم بعد 2011 في شكل محاصصة، تغذيها مطامع نفعية ضيقة عند بعض الليبيين، فشعار الدفاع عن حقوق الإقليم يستخدم مطية للوصول إلى السلطة، وعادة ما يتخلى المتسلق عن إقليمه وأهله، بل قد يتحالف مع أعداء الإقليم ويتآمر على مصلحته، إن الفيدرالية الثلاثية مجرد دابة يتم امتطاؤها للوصول إلى الكرسي، وبالتالي أمر طرحها هذه الأيام مفضوح وممجوج.
رغم أن خطر الفيدرالية في الغرب والجنوب أشد، وبذور الانفصال أقوى، فإنه لو اتخذنا برقة نموذجًا للاحظنا مظاهر صراع داخلها بين برقة البيضاء وبرقة الحمراء، بل داخل كل تركيبة قبلية، وهذه بذور تفتيت، في المقابل المركزية مقيتة ومضرة ومثيرة للغبن ومؤدية إلى الانفصال، المركزية في أبشع صورها هي احتكار العاصمة للإمكانات وتفردها بالصلاحيات، مما يحدث تمييزًا في فرص التنمية والتوظيف والإيفاد.
عبارة العاصمة الأبدية برزت بعد 2011 بينما بعد الإعلان عن سلطة الشعب تم شطب لفظ العاصمة بالكامل، وتقرر اختيار المنطقة الوسطى مقرًّا رسميًّا، لدرجة أن الأمناء كانوا يؤدون وظائفهم في بيوت متنقلة، ثم أنشئت مقرات نموذجية في الجفرة وسرت، ولكن بعد ليبيا الغد لم تلتزم إلا قيادة القوات المسلحة، بينما انتقلت اللجنة الشعبية العامة إلى طرابلس عام 2003 ولحقتها أمانة مؤتمر الشعب العام عام 2008 وبقيت مباني سرت والجفرة خاوية.
الحل الآن هو دسترة نظام حكم محلي بما لا يقل عن سبع محافظات أو ولايات أو مقاطعات ذات حدود ثابتة وصلاحيات واسعة ودخل ثابت، وتراعى في ذلك خصوصية كل مكون إداري من حيث الروابط الاجتماعية والإمكانات الاقتصادية والطبيعة المهنية والحرفية والظروف الجغرافية، يجب تجاوز التقسيم الثلاثي كونه غير منطقي ويعد بذرة للتقسيم، وينذر بنشوب خلافات على الحدود، وأولها موقع قوس (فليني) الذي كان الحد بين ولاية برقة وطرابلس ما بين 52 و63، لأن هناك من يدعي أن حدود برقة الغربية الوادي الأحمر، بل البعض يمده إلى بويرات الحسون غرب سرت، هذه الحقيقة ستنشئ (كشمير) ليبيا، فيما لو اعتمد رأي من يروجون لأقاليم دستور (بيفن سفورزا).
يجب عزل الفيدراليين عن الانفصاليين بتجاوز التقسيم الثلاثي، ودسترة إدارة محلية تكفل حق كل الليبيين في المساواة وعدم التهميش، وفي نفس الوقت القضاء على شبح التقسيم، رغم أن الانفصال شبه مستحيل، لأن الدعوة له مشبوهة ومنبوذة، فمعظم تركيبات ليبيا ضد الانفصال بالطبيعة، فلم يجد الانفصاليون حليفًا إلا القوى الملكية التي تجاوزها الزمن، التي ترى في الفيدرالية خطوة للانفصالية، ولكون برقة لن تجمع على شخصية منهم فيضطرون إلى استيراد ملك. كما أن الانفصال انتحار لسكان الشمال؛ فسيتضورون جوعًا ويموتون عطشًا، لأن مصادر النفط والنهر تقع خارجه، أما السيد عضو المجلس الرئاسي فقد لحس توقيعه على ميثاق أديس أبابا قبل أن يجف حبره، وتناقض أحد الثوابت الوطنية التي وقع عليها قبل ثلاثة أسابيع، بدعوته إلى الفيدرالية الثلاثية التي هي نواة الانفصال.
من واجب القوى الوطنية أن تقف ضد بذور الانفصال بشقيه الفيدرالية الثلاثية، والمركزية الشمولية، وبخاصة أن مجلس النواب الليبي يتجه الآن لإصدار قانون جديد يحل محل القانون 59 لسنة 2012 سيئ السمعة، وتبذل لجنة الحكم المحلي جهودًا قيمة في الوصول إلى قانون يناسب الحالة الليبية للحكم المحلي، كما أن القيادات السياسية الوطنية ومجلس الأمن القومي قاما بجهود مثمرة للمساندة في هذا الاتجاه، حيث أجريا دراسات قيمة للتجارب الليبية، وأقاما ندوات واجتماعات لإعداد مشروع قانون للحكم المحلي، يمنح صلاحيات واسعة للإدارة المحلية، وهذه طبيعة العصر، فكلتا جارتينا في مصر وتونس اعتمدتا نظام حكم يعطي صلاحيات واسعة للمستوى المحلي، من خلال باب الحكم المحلي بالدستور المصري، ومجلس الأقاليم بالدستور التونسي، ويجب فضح الدعوة الانفصالية، لأنها ستنتج دولًا قزمية عاجزة عن حماية نفسها ومحط أطماع الآخرين أو تابعة لأفلاكهم، فالانفصالية دعوة مدفوعة من أعداء الوطن وبخاصة من المستعمر القديم البريطاني والفرنسي، الذي من مصلحته تفتيت الوطن العربي ومنع إقامة أي دولة قوية فيه.
القوات المسلحة العربية الليبية بقيادتها الحالية هي صمام الأمان لوحدة ليبيا، كما أفول نجم الليبرالية والعولمة، وصعود التيارات القومية في أوروبا الغربية، والترامبية في أمريكا والأوراسية في الشرق، والتطرف الديني، والصراعات العالمية الحالية، جميعها عوامل تتطلب التفكير في تأسيس قطب مستقل وتأسيس دولة اتحادية نواتها ليبيا ودول جوار ليبيا، وليعتبر الخانعون من مصير الجميل وزيلنسكي.