مقالات الرأي

من الذي اخترع الراية؟

بقلم/ عبد المجيد قاسم

خلق الله الناس متساوين، ولم يفرق بينهم، فالتفرقة بين البشر هي من عند البشر أنفسهم، وقد تكون من عند الشيطان، فالله – جل وعلا – خلق الناس مختلفين لا متفرقين، فالاختلاف سنة كونية تشمل اللون، واللغة، والثقافة، وهو دليل على التنوع الإنساني وليس على التفاضل أو النزاع، قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ﴾.

غير أن التاريخ البشري شهد تحولات جعلت هذا الاختلاف سببًا للفرقة والصراع، بدءًا من استعباد البشر بعضهم بعضًا، مرورًا بالنزعات القومية والعنصرية، وصولًا إلى التقسيمات السياسية الحديثة التي ضيقت الأرض برغم اتساعها، وقد لعبت الرموز، ومنها الرايات، دورًا مهمًا في توجيه المجتمعات، إما نحو الوحدة وإما نحو الانقسام.

لقد ظهرت الرايات عبر التاريخ كرمز للانتماء والتجمع، سواء في الحروب أم في الممارسات السياسية والاجتماعية، وقد كانت الراية في بعض الأزمنة علامة على التحرر والاستقلال، كما هو الحال في الثورات ضد الاستعمار، حيث اجتمعت الشعوب تحت راية موحدة لتحقيق الحرية، لكن في المقابل، استخدمت الرايات أيضًا لترسيخ الانقسام، سواء داخل الدولة الواحدة أم بين الدول، ما جعلها أحيانًا أداة للصراع بدلًا من رمز للتوحد.

في العصر الحديث، أصبحت الرايات مرتبطة بالكيانات السياسية، فبات لكل دولة راية تعبر عن هويتها الوطنية، وقد أدى هذا التطور إلى قيود على حرية التنقل والتفاعل بين الشعوب، واخترع ما يسمى بالمواطنة التي ترتبط بمسمى آخر مبتدع يسمى الجنسية، وأصبحت الحدود أكثر صرامة فلا مرور سوى بجواز للسفر، وبتأشيرة، ما عزز النزعة القومية الضيقة في أرجاء المعمورة.

والرايات تحمل معاني متعددة حسب السياق الذي تُرفع فيه؛ فثمة رايات ترمز إلى الوحدة والتكاتف، وأخرى تمثل الحركات التحررية، بينما قد تكون بعض الرايات تعبيرًا عن الانقسام والصراعات الأهلية.

في ليبيا، على سبيل المثال، شهدت السنوات الأخيرة تعدد الرايات، ما بين رايات تحمل مدلولات سياسية، وأخرى تمثل فئات عرقية أو أيديولوجية مختلفة، وهذا التعدد وإن كان يعكس تنوعًا، إلا أنه في بعض الأحيان يكون مؤشرًا على الانقسام.

وفي السياق الديني، أشارت بعض الأحاديث إلى رمزية الرايات في الأحداث الكبرى، كما في الحديث الصحيح: “يقتتل عند كنزكم ثلاثة كلهم ابن خليفة، ثم لا يصير إلى واحدٍ منهم، ثم تطلع الرايات السود من قبل المشرق”، وهو حديث فُسِّر في سياقات تاريخية مختلفة.

كما أن النبي نفسه اتخذ راية، فقيل كانت سوداء مربعة، وقيل إنه اتخذ راية بيضاء، وقيل هي لواؤه في الحرب، وقيل إنه عقد للأنصار رايةً صفراء، وأنه عقد لبني سليم راية حمراء، مما يعني أن الراية لها أهميتها بغض النظر عن شكلها أو لونها.

الراية إذن ليست مجرد قطعة قماش تُرفع في الهواء، بل هي رمز ذو معانٍ متعددة تتغير وفقًا للزمان والمكان، فيمكن أن تكون أداة للبناء والوحدة، ويمكن أن تكون معولًا وسببًا للهدم والتفرقة، حسب كيفية استخدامها وتفسيرها من قبل المجتمعات.

والخلاصة أن تحقيق التوازن بين الاعتزاز بالهوية الوطنية والانفتاح على الآخر هو المفتاح للتعامل الإيجابي مع الرموز التي تجمعنا وتفرقنا في آنٍ واحد.

زر الذهاب إلى الأعلى