مقالات الرأي

المتاجرة بالمصالحة، والتعامي عن الحل الجدي للأزمة

بقلم/ محمد جبريل العرفي

ليس بين الليبيين ثارات عرقية أو طائفية، وبرهنوا على تصالحهم، منذ ملتقى طرابلس 2011 وملتقى سلوق 2015 وفيضان الجبل الأخضر، وخطف المواطن أبو عجيلة المريمي، ورالي (تي تي)، فما يفرقهم التدخل الأجنبي الذي وجد منافذ بليبيين عملاء وفاسدين، فالليبيون محتاجون لمصالحة سياسية.

فمن السهل والمفيد الشروع في المصالحة المجتمعية عن الأخطاء الشخصية (غير المؤسسية)، بالبدء بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وتهيئة البيئة لإعادة النازحين والمهجرين قسرًا، وتعويضهم، وتوفير الضمانات اللازمة لحمايتهم ورعايتهم، ورد الأملاك المغتصبة إلى أصحابها، وتنفيذ قانون العفو العام، والعمل على إلغاء كل القوانين والإجراءات الظالمة، وعلى الأخص قوانين الحراسة ومصادرة الممتلكات، وقانون العدالة الانتقالية، وقانون نظام الإدارة المحلية، وتوفير الضمانات اللازمة لقيام محاكمات عادلة، وتعزيز دور الإعلام بنبذ خطاب الكراهية والتفرقة والعنف، وضمان الحقوق والحريات، وخلق نهضة ثقافية بنشر ثقافة المصالحة وتكريسها منهجًا للعلاقات الاجتماعية ونبراسًا للتربية بمبادئ وقيم المصالحة الوطنية في المناهج التعليمية، باحترام الرموز والتاريخ، والتحلي بالمصداقية والشفافية، وبعد ذلك الشروع في الصلح الثنائي اعتمادًا على العرف الاجتماعي، وبمساعدة لجان الصلح الاجتماعي والأدوات التنفيذية.

أما المصالحة عن الأخطاء المؤسسية فتحتاج إلى قيام دولة قادرة على إنفاذ القانون وجبر الضرر، وهذا يتطلب إصدار قانون المصالحة الوطنية، وأن يبدأ تنفيذه من 2011.2.15 لتجاوز النطاق الزمنى الذي تمت فيه تسويات بإجراءات قانونية للتعويض، ويتطلب أيضًا إنشاء الأداة لتنفيذ المصالحة، ولتبدأ بإعداد قاعدة بيانات تحوي أسماء المتضررين وحجم الأضرار لتشكل مرجعًا لها في أعمالها، وتدبير وسيلة تمويل التعويضات من إيرادات غير الخزانة العامة ليشعر جميع الليبيين بالروح التضامنية لجبر الضرر، وليعتبروا، فلا يكرروا الأخطاء التي كانت سببًا في تلك المظالم، وليحد من النهم والمغالاة في تقدير التعويضات، لكن ما تحتاجه ليبيا هو مصالحة سياسية، وبخاصة بين أطراف فبراير المتخاصمة منذ احتراب فجر ليبيا، هذه القوى المتصارعة لا تدرك مفاهيم الأمن الوطني، ومخاطر التجزئة والتبعية، ومعاناة الناس، فتمترس حول مواقعها، فأصبحت عائقًا أمام حل الأزمة الليبية، ومعرقلًا لفتح الطريق أمام اتفاق سياسي لتوحيد السلطة التنفيذية ووقف الانقسام، وتحكيم الشعب بانتخابات نزيهة وحرة.

أول متطلبات حل الأزمة هو تحقيق الأمن الوطني الليبي بتوحيد القوات المسلحة والأجهزة الأمنية، والعمل على تعزيز قدراتها وتطويرها، بما يمكنها من القيام بواجباتها لحماية الوطن والمواطن، ثم إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية متزامنة، بعد التأكد من تحقق الشروط الخمسة لنجاحها وهي: قوانين وقواعد عادلة لإجرائها، وإدارة نزيهة تشرف عليها، وقوة محايدة لحمايتها، وأداة حريصة لمراقبتها، وضمان القبول بنتائجها، عدا ذلك فإجراء الانتخابات في ظل الانقسام وسيطرة الميليشيات، وتغول المال الفاسد وتفشي الاضطرابات لن يكون حلًّا للمشكلة، بل سيزيد من تعقيدها، كما أن وضع وإقرار الدستور في ظل الاضطرابات والانقسام والمغالبة والإقصاء وتسييس الدين، لن يكون حلًّا للأزمة الليبية، ما يتطلب تأجيل وضع وإقرار الدستور الدائم إلى حين القضاء على الاضطراب، وإقامة المصالحة وتحقيق الاستقرار. 

إن الحل السلمي والجذري هو إقامة مؤتمر تأسيسي يحضره كل الليبيين، من خلال مندوبين تختارهم المكونات السياسية والمهنية والاجتماعية للشعب الليبي، بإرادتها الحرة دون فرض أو إقصاء أو تمييز، يعكف المؤتمر على تحديد شكل الدولة ونظامها وثوابتها، المتمثلة في ثوابت هوية الدولة وسيادتها، والأمن الوطني، والنظام السياسي والدستوري، والقضاء والعدالة، والاقتصاد الوطني والتنمية، والموارد الطبيعية والثروات الوطنية، وثوابت الشؤون الخارجية والعلاقات الدولية والتضامن الدولي، ثم يحيل هذه الثوابت إلى لجنة فنية لصياغتها في دستور دائم، لتصبح هذه الثوابت أساس بناء مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية، وموجهًا وطنيًا ومرجعًا أساسيًّا، كما يشكل المؤتمر إدارة مؤقتة لتوفير الخدمات الأساسية للمواطنين، والشروع في المصالحة وخلق البيئة الملائمة لإجراء الانتخابات تمهيدًا للوصول إلى المرحلة الدائمة، لكن السؤال الملِحَّ من أين يكتسب المؤتمر شرعيته؟ وكيف يفرض تنفيذ قراراته؟

وفي حالة عدم الوصول إلى تنفيذ الاستحقاقات المتمثلة في وقف الانقسام السياسي وإجراء الانتخابات والوصول إلى المرحلة الدائمة، فقد يتطلب الأمر تعديل الإعلان الدستوري بتكليف المحكمة العليا بإدارة شؤون البلاد مؤقتًا ووضع خارطة طريق لها للوصول إلى المرحلة الدائمة خلال مدة قصيرة.

عطفًا على ميثاق المصالحة الذي وقعت عليه بعض الأطراف أغلبها مدفوع بأغراض نفعية ضيقة كتعميد المجلس الرئاسي مسؤولًا عن ملف المصالحة، وتثبيت وثائق فبراير كجزء من مرجعيات المصالحة كاتفاق الصخيرات ومخرجات جنيف، والبعض فقط ليحجز كرسيًّا بالمشهد ليشارك في تقاسم السلطة والبعض ليضمن وظيفة في مجلس استشاري غير محدد المدة، الميثاق نص أدبي فضفاض لن يحل الأزمة الليبية، لأنه لم يبحث في جذورها، ولم يضع آلية وبرنامجًا زمنيًّا محددًا وعقوبات على المخالفين، والأهم من كل ذلك غياب مكونات مهمة من الشعب الليبي عن المساهمة في إعداده أو التوقيع عليه، وأهمها النظام السابق، أما الطرف الذي يحسبه البعض عليهم، فهو لا يحمل مشروع النظام السابق للحرية والعدالة الاجتماعية، والسيادة الوطنية، بل يبحث عن كرسي في التوليفة الحالية، مثلما انخرط سابقًا في جنيف، حيث أسهم في اختيار سلطة وتحصل على وظائف، جنيف لم تحل الأزمة، بل استمر النهب والإفقار والتبعية والأخطار المحدقة بالوطن، وهذا يناقض توجه أنصار النظام، الذين يسعون إلى “استعادة ليبيا، وطنًا للجميع، آمنًا، ومستقلًا، ومسؤولًا، والسيادة فيه لشعبه”.

زر الذهاب إلى الأعلى