مقالات الرأي

الضم التدريجي للأراضي الفلسطينية.. وتحولاتها في التجربة التاريخية

بقلم/ محمد بوخروبة

في الدستور الأمريكي لا حدود جغرافية ثابتة للدولة الأمريكية التي يحق لها أن تتوسع كلما شاءت بالاستيلاء على أراضي الغير عندما ترى ضرورة للتوسع، وكذلك هو الحال في الكيان الصهيوني، واليوم بمناسبة ما يظهره ترامب من نزعة توسعية على حساب البلدان الأخرى نذكِّر بما عرضناه سابقًا من أنه، عبر المسيرة الاستيطانية الأمريكية الإبادية الرهيبة، أرغمت شعوب أمريكا الأصلية على توقيع 370 معاهدة حدودية جغرافية وسياسية، كل واحدة منها كان يجري توقيعها على أساس أنها الأخيرة، إن أرشيف حكومة واشنطن يحتفظ بملفات تلك المعاهدات التي تبدو كل واحدة منها مستكملة لجميع الشروط الأصولية والقانونية، كأنما هي المعاهدة الأخيرة غير القابلة للانتهاك، غير أن كلا منها انتهكت من قبل المستوطنين، وتحولت مثل سابقاتها إلى مجرد حبر على ورق، فقد كانت المعاهدة تعقد لتثبيت الأمر الواقع والوضع الراهن عند الحد الذي بلغه لصالح المستوطنين، ثم تتكشف في ما بعد عن أنها مجرد خديعة هدفها إنهاك مقاومة الضحايا كي يتحقق القضاء عليهم بأقل تكلفة وبأقصر وقت ممكن.

التغريد خارج السرب، تعبير يشار به إلى أي سلوك أو فعل أو فكر غير مألوف، والواقع أن كون الشيء غير مألوف، لا يعني موقفًا إيجابيًّا أو سلبيًّا منه، بل الهدف هو تأكيد فرادته، القوانين العلمية، تتأسس بناء على رصد ومشاهدة واختبار، ولكن ذلك لا ينفي وجود عوامل مؤثرة على تلك القوانين، وعلى هذا الأساس اضطر العلماء إلى استنباط تعابير، تشير إلى حالات الفرادة، مثل خارج القانون، أو العوامل المتدخلة.

لتوضيح ما أشرنا له، على سبيل المثال، الأطباء يجمعون على مضار التدخين على الصحة، فيرد عليهم البعض بأن فلانا عاش قرابة مائة عام، وهو مستمر في التدخين، ولم تتأثر صحته، فيجيب العلم، بأن الاستثناء لا يلغي القاعدة العلمية.

هذا الكلام لا يقتصر على قوانين الصحة، أو الطبيعة، بل يشمل مختلف أوجه الحياة، بما في ذلك الحياة السياسية. فكل جديد، هو تغريد خارج السرب، بما في ذلك الأديان والسياسة الفلسفية، فحين نقرأ التاريخ، نرى أنه ما من نبي أو فيلسوف أو مفكر، أتى بجديد، إلا وتعرض إلى حرب ضروس، في مجتمعه.

كان حق الفتح، أمرا مقبولا ومعمولا به، منذ بداية التاريخ حتى العقد الثاني من القرن العشرين. وبموجب هذا الحق، كانت الإمبراطوريات تنشأ وتتوسع وتنكمش وتنتهي. هكذا كان الوضع طيلة التاريخ البشري، وفي عموم القارات القديمة. وبموجب حق الفتح، اشتعلت الحروب بين الدول الأوروبية، في دورات عديدة، دفعت قراءتها بعدد من المفكرين إلى صياغة نظرية الدورة التاريخية، حيث القانون هو اشتعال الحروب، والاستثناء هو الهدنات القصيرة التي تعقب كل حرب، إلى أن توصل الفرقاء المتحاربون، في اتفاقية ويستفليا، التي وضعت لأول مرة في تاريخ أوروبا، فكرة الاعتراف باستقلال الدول، ضمن حدود متعارف عليها.

 ومع العقد الثاني، للقرن العشرين، برز النداء العالمي لحقوق الإنسان، الذي أطلقه الرئيس الأمريكي ويلسون، وقد اعتبر الاستعمار عملا مقيتا وغير أخلاقي، وطالب بحق تقرير المصير لجميع الشعوب، وبموجب هذا النداء تغير الاسم الفاقع للاستعمار إلى مسميات جديدة، دخلت القاموس السياسي، كالوصاية والحماية والانتداب، لكن موقف ويلسون، الذي يعارض وجود الاستعمار القديم، لم يجد غضاضة في تقديم تأييد غير مشروط لوعد بلفور، بتأسيس وطن قومي لليهود على أرض فلسطين.

وقد رأى كثير من الدارسين في حينه، أن الأوضاع الدولية آنذاك، كانت تشي بأن مرحلة الاستعمار التقليدي، البريطاني والفرنسي، لن يقدر لها أن تستمر، وأن بيان ويلسون، كان المقدمة لإزاحة البريطانيين والفرنسيين، والحلول محلهما، والواقع أن الولايات المتحدة، بدأت فعلا بعد الحرب العالمية الأولى، المطالبة بمواقع اقتصادية بالمنطقة العربية، نظير الأموال الكبيرة، التي قدمتها لبريطانيا وفرنسا، أثناء تلك الحرب،  لكن الإزاحة الحقيقية للاستعمارين التقليدين، لم تكتمل إلا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وانبثاق نظام دولي جديد مستند على الثنائية القطبية، تقاسم فيه كل من الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، الهيمنة على العالم، وعلى القرارات الصادرة عن المؤسسات الناظمة للعلاقات الدولية، وحين تأسست هيئة الأمم المتحدة، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، اختيرت مدينة سان فرانسيسكو، في أقصى غرب الولايات المتحدة، مكانًا للإعلان عن تأسيس الهيئات الدولية الجديدة والمنظمات التابعة لها.

تقودنا هذه القراءة، إلى الوضع الراهن، وترهات الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، المتمثلة في الدعوة إلى تهجير سكان قطاع غزة، والموافقة على أن تضم إسرائيل الضفة الغربية، ومدينة القدس الشرقية إليها، وترامب في هذه الدعوة، يغرد فعليا خارج السرب، حيث لا يسانده عالميا في مطلبه، سوى رئيس الحكومة الإسرائيلية، اليميني المتطرف، بنيامين نتنياهو، والجوقة المتحلقة من حوله.

يقف ترامب ونتنياهو، في جهة والعالم بأسره، في جهة أخرى. ومع علم ترامب، أنه يراهن في تصريحاته على الوهم، رابطا بين سلوكه كرجل أعمال، وبين وظيفته في البيت الأبيض،فإن الغموض والتناقض وعدم الوضوح في تصريحاته، واستخدام تعابير وقحة وفظة، تعبير عن ضعف أكثر مما هو تعبير عن قوة.

فترامب، تارة يعلن أنه لن يشن أي حرب في المنطقة، بما في ذلك قطاع غزة، وأن عهده سيكون عهد سلام، وتارة أخرى يقول إنه سيتسلم قطاع غزة، ويطرد سكانه منه، ويقوم ببنائه لصالحه شخصيا، فيصبح القطاع جزءا من ممتلكاته، خلافا للدستور الأمريكي، الذي يمنع الرئيس من استثمار موقعه لصالح مشاريعه الشخصية. وقد سبق لترامب، أن وجه السهام، للرئيس السابق، جوزيف بايدن باستثمار موقعه، لتقديم مساعدات لأعمال ابنه التجارية في أوكرانيا، وطالب بمحاسبته على ذلك السلوك.

يتناسى الرئيس الأمريكي، أن العالم قد تغير فعليا، وأن موازين القوة لم تعد على ما هي عليه، بعد انفراط القرن الماضي، فهناك منافسون في الساحة الدولية، بعضهم تخطى في قوته الاقتصادية، قوة الاقتصاد الأمريكي، كالصين الشعبية، وبعضهم تتكافأ قوته العسكرية، مع قوة أمريكا، كما الحال مع الاتحاد الروسي. كما يتناسى أن مرحلة الإملاءات التي كان القادة الأمريكيون، يفرضونها على العرب، قد ولت إلى غير رجعة.

إن تاريخًا عربيًّا جديدًا، رافضًا للإملاءات الاستعمارية قد بدأ يأخذ مكانه، ومعه لن يكون لأي كان، مكان في المجال العربي، للتغريد خارج السرب.

زر الذهاب إلى الأعلى