مقالات الرأي

الديمقراطية وظاهرة أنيبتوقراطي

بقلم/ فراس الحجازي

النظام الديمقراطي بشكله الحالي وكما يراه العديد من السياسيين وأساتذة العلوم السياسية، ليس مثاليًّا، لكنه يُعتبر “أفضل الأسوأ” بين أنظمة الحكم. فهو يمنح الشعوب حق التصويت لاختيار قياداتها، ويحدد صلاحياتهم وفترات ولايتهم وفقًا للقوانين والدساتير، ومع ذلك، فإن هذا النظام يعاني عيوبًا جوهرية، أبرزها تأثير المال والإعلام على وعي الناخبين، ما يجعله بيئة خصبة لسيطرة النخب المالية على القرار السياسي، لم يعد أصحاب رؤوس الأموال مجرد داعمين للسياسيين، بل أصبحوا هم أنفسهم في المقدمة، ما أدى إلى تحول الديمقراطية من وسيلة لحكم الشعب إلى أداة لضمان استمرار مصالح الأوليغارشية الرأسمالية، ونتج عن ذلك ما يمكن وصفه بـ “أنيبتوقراطي”، وهو مصطلح ساخر يشير إلى حالة سياسية تتولى فيها السلطة قيادات غير كفؤة، يتم انتخابها من قبل جمهور يفتقر إلى الوعي السياسي، بينما يتحمل العبء الفعلي الطبقة الأكثر إنتاجًا وكفاءة.

حين نلقي نظرة على المشهد السياسي العالمي، نجد أن هذه الظاهرة لم تعد مجرد فكرة نظرية، بل أصبحت واقعًا ملموسًا في العديد من الدول التي يفترض أنها تقود السياسة الدولية، بداية من الأزمة الأوكرانية التي كان الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي من أسبابها، وهو يعتبر مثالًا واضحًا لنتائج ظاهرة أنيبتوقراطي، فقد وصل إلى السلطة بدعم من الإعلام الغربي الذي صنع منه شخصية سياسية “ثورية”، رغم افتقاره إلى أي خبرة سياسية حقيقية، وتم استخدامه في افتعال أزمة كبرى مع روسيا، حيث لم يسعَ إلى تقديم حلول دبلوماسية تحقن الدماء وتحمي أوكرانيا من الدمار، بل زج بها في حرب غير متكافئة، فقط لإرضاء القوى الغربية التي ساعدته على الوصول إلى السلطة، والنتيجة: دمار شامل، نزوح بالملايين، وانهيار اقتصادي، بينما تستمر القوى الكبرى في استغلال الوضع لتحقيق مصالحها الاستراتيجية، دون أي اعتبار لمستقبل أوكرانيا أو معاناة شعبها، بينما اختارت الدول الغربية التصعيد العسكري والعقوبات الاقتصادية من أجل إنهاك روسيا وإخضاعها ما أدى إلى أزمات طاقة وغذاء وتضخم عالمي، صحيح أن الأزمة الاقتصادية لم تبدأ مع الحرب الأوكرانية، فقد سبقتها جائحة كورونا، لكن طريقة التعامل مع هذه الأزمات أثبتت مدى هشاشة المنظومة السياسية والاقتصادية التي تديرها هذه النخب.

في ليبيا، الصورة أكثر وضوحًا، فمن يتصدر المشهد هم أيضًا مثال عن حكم عديمي الكفاءات، حيث لم تمر البلاد بالمراحل التي مرت بها الدول التي خاضت تجارب ديمقراطية لعقود قبل أن تصل إلى حالة أنيبتوقراطي، فليبيا انتقلت مباشرة من وضع سياسي واقتصادي مستقر إلى حالة من الفوضى السياسية دون المرور بمرحلة بناء مؤسسات ديمقراطية حقيقية، قبل 2011، كانت ليبيا دولة تتمتع باستقرار سياسي ووضع اقتصادي مزدهر، وكانت تعيش تجربة ديمقراطية فريدة مقارنة بالنماذج التقليدية، وهو موضوع يحتاج إلى تحليل مستقل لفهم طبيعته، ورغم ذلك، تم تصنيفه نظامًا استبداديًّا، وأسقط تحت شعار التحول إلى الديمقراطية، لكن النتيجة كانت عكسية تمامًا، إذ لم تتحقق ديمقراطية مستقرة، بل دخلت البلاد في حالة من الاضطراب المستمر، حيث لم تقتصر المشكلة على عدم بناء مؤسسات جديدة، بل تم تدمير المؤسسات القائمة التي كان يمكن أن تكون أساسًا للدولة الجديدة.

ما حدث في ليبيا لم يكن تحولًا تدريجيًّا نحو الديمقراطية، بل قفزة مباشرة إلى فوضى سياسية قادت إلى نفس المرحلة التي تعاني منها الديمقراطيات الغربية بعد عقود طويلة، ولكن دون المرور بفترة نمو ديمقراطي طبيعي، يمكن للبعض أن يعتبر هذا تقدمًا، والوصول إلى حالة سياسية مشابهة لما تعانيه الديمقراطيات التقليدية!

الوضع في سوريا يعكس المشهد ذاته، فقد كان هناك نظام سياسي مستقر استمر لخمسين عامًا، وهو استقرار لم تشهده سوريا منذ استقلالها، ولكن التدخل الغربي تحت ذريعة الحرية وإنهاء الاستبداد أدى إلى إسقاط النظام، ليتم بعدها فرض قيادة جديدة بمباركة النخبة الدولية، رغم أنها تضم شخصيات مصنفة على أنها إرهابية ومجرمة، وهو ما يفضح التدخل الغربي الذي لم يكن من أجل الديمقراطية، بل كان هدفه إعادة تشكيل المنطقة وفق مصالح القوى الإقليمية والدولية، دون أي اعتبار لنتائج هذا التدخل على الشعوب، النتيجة كما نشاهد الآن: سوريا أصبحت مهددة بالتقسيم والفوضى واستمرار الحرب الأهلية، فيما تستمر القوى الكبرى في فرض أجنداتها دون أدنى مسؤولية عن الكوارث التي خلفتها، والأخطر من ذلك، أن هذه القيادات الجديدة أصبحت الآن على رأس المؤسسات في سوريا، ما أدى إلى استمرار لظاهرة أنيبتوقراطي، من إقصاء لأصحاب الكفاءات حتى الذين كانوا يعارضون النظام السابق، لضمان استمرار سيطرة نخبة غير مؤهلة تخدم أجندات خارجية بدلًا من بناء دولة ذات سيادة حقيقية.

كل هذه الأحداث تشير إلى أن العالم يسير نحو مزيد من التعقيد والفوضى، لأن هذه الظاهرة صنعت نخبة حاكمة لا تفكر في مصائر الشعوب، بل تركز على حماية مصالحها الاقتصادية والسياسية، قد يقول البعض إن هذا الوضع ليس جديدًا، وإن النخب السياسية لطالما كانت تخدم مصالحها، وهذا صحيح، ولكن الجديد هو أن هذه الظاهرة باتت تسيطر على دول كانت تُصنف على أنها ديمقراطيات متقدمة، يفترض أنها تحكمها الكفاءات وتسعى إلى تحقيق الازدهار لشعوبها ولو بشكل نسبي، لكن ما نراه الآن هو العكس تمامًا. هذا ما بدأ يثير حالة من الغضب الشعبي في هذه الدول، التي بدأت تفقد ثقتها في حكوماتها، كما رأينا في احتجاجات “السترات الصفراء” في فرنسا، والاحتجاجات المتزايدة ضد ارتفاع الأسعار والتضخم في أوروبا، حتى الانتخابات الأمريكية التي فاز بها بايدن شهدت جدلًا واسعًا حول مزاعم التزوير، وهو أمر لم يكن يُسمع به من قبل عن الانتخابات الأمريكية التي لطالما اعتُبرت النموذج الديمقراطي الأول في العالم، كذلك في المظاهرات والاحتجاجات العالمية وبخاصة من الشباب ضد ما يحدث في غزة وضد مواقف حكوماتها عن الحرب، قد يكون هذا مؤشرًا على أن الشعوب بدأت تستعيد وعيها، وقد تصل إلى لحظة تفرض فيها إرادتها على الأنظمة السياسية، لكن السؤال المطروح هو: هل سنشهد انتفاضة عالمية ضد هذه النخبة الحاكمة، أم أن ظاهرة أنيبتوقراطي ستظل الصيغة السائدة في المستقبل القريب؟

زر الذهاب إلى الأعلى