مقالات الرأي

الانعكاسات الكارثية لانخفاض أسعار النفط على الاقتصاد الليبي: تحديات الإنفاق الحكومي والفساد

بقلم/ عثمان الدعيكي

تشهد الأسواق العالمية لتداول النفط تقلبات حادة في الآونة الأخيرة، ما يثير مخاوف اقتصادية كبيرة في الدول التي تعتمد بشكل شبه كلي على عائدات النفط، ومن بينها ليبيا. ففي حال انخفضت أسعار النفط إلى مستويات أقل مما هي عليه اليوم، فإن الاقتصاد الليبي سيواجه عواقب كارثية، وبخاصة في ظل زيادة الإنفاق الحكومي غير المقنن، وانتشار الفساد، وغياب الرقابة الفعالة على الإنفاق العام، بالإضافة إلى التوظيف العشوائي في مؤسسات الدولة.

ليبيا هي واحدة من أكثر الدول اعتمادًا على النفط في العالم، حيث تشكل عائدات النفط ما يزيد على 90% من إيرادات الدولة، و60% من الناتج المحلي الإجمالي، وفقًا لبيانات صندوق النقد الدولي. هذا الاعتماد الكبير على إيرادات النفط يجعل الاقتصاد الليبي شديد التأثر بتقلبات أسعار النفط العالمية. ففي حال انخفض سعر البرميل إلى أقل من 50 دولارًا، وهو مستوى يقارب تكاليف الإنتاج في بعض الحقول الليبية، فإن العائدات الحكومية ستتراجع بشكل حاد، ما سيؤدي إلى عجز كبير في الميزانية. حيث شهدت ليبيا في الآونة الأخيرة زيادة كبيرة في الإنفاق الحكومي، خصوصا في مجالات المرتبات والدعم غير المنتظم، دون وجود خطة اقتصادية واضحة لتحقيق التوازن بين الإيرادات والنفقات.

ووفقًا لتقارير مصرف ليبيا المركزي، فإن الإنفاق الحكومي في عام 2023 بلغ حوالي 90 مليار دينار ليبي، في حين أن الإيرادات لم تتجاوز 70 مليار دينار، ما أدى إلى عجز قدره 20 مليار دينار. وفي حال انخفضت أسعار النفط، فإن هذا العجز سيتضاعف، ما سيضع الحكومة أمام خيارات صعبة، مثل خفض الإنفاق أو اللجوء إلى الاقتراض، وهذا الأمر إن حدث فسيكبل الدولة لسنوات قادمة في دائرة الديون وخدماتها، ما سيعوق بالتأكيد أي خطط وطنية لرفع مستوى المعيشة للمواطن، فضلاً عن رهن الدولة وقرارها السياسي ومقدراتها لمؤسسات المال العالمية.

كما أن غياب الرقابة الفعالة على الإنفاق العام يزيد من تعقيد الأزمة. فوفقًا لتقارير محلية ودولية، فإن الفساد المالي والإداري منتشر على نطاق واسع في ليبيا، حيث يتم تحويل ملايين الدولارات من المال العام إلى حسابات شخصية أو مشاريع وهمية. وفي تقرير صادر عن منظمة الشفافية الدولية في عام 2022 أشار إلى أن ليبيا تحتل المرتبة 170 من أصل 180 دولة في مؤشر الفساد العالمي. هذا الفساد المستشري يفاقم من أزمة الاقتصاد الليبي، حيث يتم تبديد الموارد المحدودة دون تحقيق أي عوائد حقيقية.

من بين التحديات الكبرى التي تواجه الاقتصاد الليبي هو التوظيف العشوائي في مؤسسات الدولة، حيث يتم تعيين آلاف الموظفين دون وجود حاجة فعلية لهم، ما يؤدي إلى تضخم الجهاز الإداري الحكومي وزيادة الأعباء المالية على الدولة. ووفقًا لإحصاءات وزارة العمل الليبية، فإن عدد الموظفين في القطاع العام تجاوز 2.3 مليون موظف، في حين أن القطاع الخاص يعاني شح الاستثمارات وتراجع النشاط الاقتصادي. هذا الخلل الهيكلي في سوق العمل يزيد من الضغط على الميزانية العامة، وبخاصة في ظل تراجع عائدات النفط.

في حال استمرار انخفاض أسعار النفط، فإن ليبيا ستواجه سيناريوهات اقتصادية صعبة، من بينها:

– السيناريو الأول: عجز كبير في الميزانية مع تراجع الإيرادات النفطية، ستضطر الحكومة إلى خفض الإنفاق على الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم، أو اللجوء إلى الاقتراض الخارجي، ما سيزيد من أعباء الديون.

– السيناريو الثاني: تدهور قيمة العملة المحلية مع تراجع الاحتياطيات من العملة الصعبة، حيث ستفقد العملة المحلية قيمتها، ما سيؤدي إلى ارتفاع معدلات التضخم وزيادة أسعار السلع الأساسية، ما سيؤثر سلبًا على مستوى معيشة المواطنين.

– ⁠السيناريو الثالث: تفاقم البطالة والفقر مع تراجع النشاط الاقتصادي، إذ ستزداد معدلات البطالة، خصوصا بين الشباب، ما قد يؤدي إلى تفاقم الأزمات الاجتماعية والسياسية.

ولتجنب هذه السيناريوهات الكارثية، يجب على الحكومة الليبية اتخاذ إجراءات عاجلة، من بينها تنويع مصادر الدخل من خلال تشجيع الاستثمار في القطاعات غير النفطية مثل الزراعة والسياحة والصناعة، وإصلاح نظام الإنفاق العام من خلال تعزيز الرقابة على الإنفاق ومكافحة الفساد، ووضع خطط استراتيجية لتحقيق التوازن المالي، فضلاً عن إعادة هيكلة الجهاز الحكومي من خلال تقليل التوظيف العشوائي وتحسين كفاءة مؤسسات الدولة.

إن بلادنا اليوم تقف على مفترق طرق اقتصادي خطير، حيث إن انخفاض أسعار النفط قد يؤدي إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية القائمة. ومع ذلك، فإن الإصلاحات الجذرية في نظام الإنفاق العام ومكافحة الفساد وتنويع الاقتصاد يمكن أن تكون المخرج من هذه الأزمة. الوقت ليس في صالح البلاد، والإجراءات العاجلة أصبحت ضرورة حتمية لإنقاذ الاقتصاد من الانهيار.

زر الذهاب إلى الأعلى