مقالات الرأي

من التواطؤ إلى الإهانة.. تراجيديا المصير العربي 

بقلم/ عبدالمجيد قاسم

ذكرني المشهد الذي جمع بين ترامب والملك عبدالله بمشهد سينمائي جمع بين الفنانين المصريين محمود المليجي وعبد الوارث عسر، وكان المليجي يلعب دور الغني الظالم الذي يريد الزواج من بنت الموظف المديون الذي كتب على نفسه كمبيالات يمكن أن تزج به في السجن، وهذا المعلم يستعملها كأداة ضغط حتى يتم له مراده.

الأمر هنا ليس بعيدًا عن هذا المشهد الدرامي، بل هو أكثر درامة وتراجيديا، ويجعلك تخجل حتى تذوب، وهو كفيل بأن يبكي الحجر على ما وصل إليه حال أمتنا، فعندما يجلس ملك من ملوك العرب، وسليل للبيت الهاشمي، بهذه الاستكانة والارتباك الذي انعكس على حركاته غير الإرادية أمام شخص يبدي تكبره وازدراءه له، ويرى أنه صاحب نعمة عليه، ويبدأ في إملاء قرارات لا رجعة فيها، فلا خيار ولا تشاور ولا هم يحزنون، ويبدو الملك وهو يرد على أسئلة الصحفيين في حالة يرثى لها، فعندما نرى ذلك نعلم أن ساسة الأمة وصلوا في بئر الخنوع والتبعية إلى القعر، وأن الإهانة في السر تحولت إلى العلن، حتى تصل الرسالة إلى الشعوب ذاتها بأن عليها الانصياع كما انصاع ملوكهم ورؤساؤهم. 

وعليه فالأمر بهذه الصورة يجعلنا نتوقف لنرى، خاصة أن ترامب عندما سئل عن موقف مصر والأردن من تهجير أهل غزة قال بكل ثقة ووقاحة إنهما سيوافقان لأننا نساعدهم، وكرر أنهما سيوافقان تأكيدًا لما يعلمه هو من أمور خافية، فترامب ليس دبلوماسيًا، بل هو تاجر، سمسار عقارات، ويتعامل مع القضايا السياسية على أنها صفقات، وطالما توافرت شروط الصفقة فعلى أطرافها إكمالها دون تردد. 

كما أن هذا المشهد المذل لملكٍ ما فتئ يستعمل المشاهد التمثيلية أمام شعبه ليوهمه بقوته، يجعلنا نتساءل عن هذه المملكة الملقاة بين جبال الشام وصحراء الجزيرة العربية، قوتها وعن نشأتها، وعند الحديث عن نشأة المملكة الأردنية الهاشمية، لا بد من العودة إلى الجذور الجغرافية والتاريخية لها، فهذه المنطقة التي باتت تمثل المملكة الأردنية كانت في الأساس جزءًا من بلاد الشام، وتحديدًا إقليم الكرك الذي شكل الامتداد الشرقي لفلسطين، وكان هذا الإقليم في العهد العثماني يعد بادية فلسطين، ولم يكن له كيان سياسي مستقل، بل كان جزءًا من ولاية دمشق ثم ولاية القدس، وكانت أهميته تنبع من أنه يعد نقطة عبور للقوافل التجارية بين الشام والجزيرة العربية.

ومع انهيار الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، وإعادة رسم حدود المنطقة وفق المصالح الاستعمارية، برزت الحاجة إلى إيجاد كيانات جديدة تتناسب مع التقسيمات التي فرضتها القوى الكبرى، وهنا جاء الدور البريطاني في منح شرق الأردن للأمير عبدالله بن الحسين عام 1921، كنوع من الترضية السياسية بعد أن فشلت طموحات والده، الشريف حسين بن علي، في الحصول على عرش سوريا أو العراق رغم دعم الهاشميين للإنجليز في ثورتهم ضد العثمانيين، وهكذا، تأسست إمارة شرق الأردن ككيان سياسي مصطنع، لم يكن يمتلك مقومات اقتصادية حقيقية، بل اعتمد منذ نشأته على الدعم البريطاني وعائدات تجارة العبور التي تمر عبر أراضيه.

ورغم إعلان استقلال الأردن عام 1946م وتحوله إلى مملكة، فإن طبيعة الدولة بقيت مرهونة بموقعها الجغرافي المحدود ومواردها الاقتصادية القليلة، ومع نشوب الصراع العربي-الإسرائيلي، وجدت هذه المملكة نفسها في وضع حساس بين القوى الكبرى، خاصة مع نكبة فلسطين عام 1948 واحتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية، دفعت هذه الأحداث الأردن إلى انتهاج سياسة ناعمة، تقوم على تحقيق التوازن بين المصالح الإقليمية والدولية، فكانت دائمًا في موقع الوسيط بين العرب والغرب، وبين الفلسطينيين والإسرائيليين.

هذا التوجه السياسي لم يكن خيارًا ترفيهيًا بقدر ما كان ضرورة استراتيجية لدولة تفتقر إلى الثروات الطبيعية، وتعتمد على التحالفات الدولية لضمان استقرارها، ومن هنا، لعبت الأردن دورًا محوريًا في اتفاقيات السلام، بدءًا من معاهدة وادي عربة مع إسرائيل عام 1994، وصولًا إلى الحفاظ على علاقات قوية مع الولايات المتحدة، التي تعد المصدر الأساسي للمساعدات الاقتصادية والعسكرية للأردن.

وهكذا، فإن المملكة الأردنية الهاشمية، وكونها كيانًا سياسيًا وليد الترتيبات الاستعمارية، حاولت أن تضمن بقاءها واستقرارها عبر تبني سياسة براغماتية، تقوم على الحذر السياسي والانفتاح على جميع الأطراف، ومع مرور الزمن، تحولت هذه السياسة إلى نهج راسخ جعل الأردن لاعبًا أساسيًا في معادلات الشرق الأوسط، رغم محدودية موارده، واعتماده المستمر على المساعدات الخارجية وتجارة العبور.

لذا لا نستغرب الحرج الذي وقع فيه ملك الأردن، وهو يعي أن بلاده جسم مصطنع بالأساس، وأنه، كمن سبقه، ملك حتى إشعار آخر، وهو اليوم مقدم على منعطف خطير، فإما أن يقف موقفًا تاريخيًا ضد تهجير أهل غزة، وضد طموح الكيان الصهيوني في التوسع، فيصطدم بالغرب مع ما سيجره عليه من تبعات قد تطيح بعرشه. وإما أن يستجيب لإملاءات الغرب فيصطدم بشعبه الذي هو عربي حتى النخاع، والأمران أحلاهما مر!

زر الذهاب إلى الأعلى