في الثقافة والفكرما الإنسان؟ المداخلة الخامسة: العربية منهج تفكير حي متحرك
بقلم/ مهدي أمبيرش
ربما مر البعض على الذي سبق أن ذكرناه من أن منهج التفكير يكشف عن أن الذهن العربي الذي هو بمثابة المعمل الذي تتم داخله عملية التفكير متحرك وفاعل، وأن قوانين هذه الحركة ليست فيزيائية محضة ولا محكومة بمنطق وقانون الحياة العام الذي تخضع له جميع الموجودات الحية بما في ذلك الإنسان في طوره البشري، أي مقبل وصوله إلى الطور الأخير بعد أن تم نفخ الروح فيه: أي طور الإنسان، ولهذا فرقنا بين النفس والروح، وأن الطور البشري هو تقدم عن المستوى الفيزيائي، أي من التراب وتمثلاته التي ذكرها القرآن الكريم من تراب إلى طين لازب وحمأ مسنون، وهي الفترة التي قال عنها الحق في سورة الإنسان (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا).
أن هل، هنا، لا يفهم منها أنها استفهام ضمن استخدامها الأصل، ولكن تقرؤها على أنها تقريرية، بمعنى نعم قد أتى عليه حين من الدهر، وحين في العربية لها مفاهيم كثيرة في التعبير عن الامتداد في الزمن، وأن يكون مذكورا، تجاوز للشيء الذي هو التراب بعامة قبل خلق الإنسان، إلى المخلوق والحي في طور ما بعد الموجود، أي طور النفس والحياة، الذي في المصطلح المنطقي في أصله اليوناني (Animism)، التي كان الأولون من الطبيعيين يفسرون الطاقة الكامنة في الذرة على أنها نفس، وهذا واضح من البادئة (anim) ومنها (animal) والتي حاول المنطقي المقدوني أرسطو أن يخص البشري أنه حيوان ناطق، فيكون الحيوان جنسا، وناطق، فصل، وهو لا يقصد النطق على أنه الصوت، فالمظاهر الطبيعة أصوات وللمخلوقات الحية أصوات بدءا من الحشرات، التي قلنا إن الطاقة الحية فيها أبعد من الفيزيائية المحضة، ولكن أرسطو يتحدث باعتباره منطقيا، يقصد الإنسان المفكر القادر على الفهم والإدراك وإصدار الأحكام.
هنا كنا في المداخلات السابقة نؤكد على أن الطور الأخير وهو طور الإنسان الأخير بعد نفخ الروح فيه صار قادرا على أن يتكلم وأن يبين عن أفكاره، وهو ما ذكره الحق في سورة الرحمن، من أنه خلق الإنسان علمه البيان، وأن القراءة قد تكون قدرة عامة لكل المخلوقات، إلا أن الإنسان يتقدم عليها في طوره الأخير بالكلام والبيان، فكل الحيوانات بل والمخلوقات الأدنى لها منطق مفهومي، ولكنها لا تتكلم، فقد نفهم من صوت الحشرات والطيور كما جاء في سورة النمل، الآية 16 على لسان سليمان عليه السلام “وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير” ومنطق الطير هو الذي قلنا إن المستوى الأدنى من البيان هو المنطق، ففي كلام الإنسان منطق، ولكنه يتجاوز المنطق إلى البيان والكلام.
لقد سبق أن ذكرنا أن العرب قد فرقوا بين مستوى المنطق ومستوى الكلام، فقد نفهم بالرمز والإشارة مثلا، بل والصمت، وهذه كلها ندخلها ضمن وسائط التعبير، ولكنها دون الكلام. يقول عنترة بن شداد وقد أدرك الألم الذي يعاني منه حصانه في المعركة من أثر النبال في صدره، ولكنه كان عاجزا على الكلام: (فازور من وقع القنا بلبانه.. وشكا إلي بعبرة وتحمحم، لو كان يدرى ما المحاورة اشتكى، ولو كان لو علم الكلام مكلمي)، أم منطق التفكير يقول: مثلما الإنسان قد وصل بالروح إلى التمام، والتمام غير الكمال، وكان كان الإنسان قد خلق في أحسن تقويم وهو ما يرد على مفهوم التطويرية عند لمارك ودارون والطبيعيين، فهو تطور تقدم تدريجيا ضمن هذا المخلوق الإنسان الكائن، فإن هذا يجعله قبل أن ينتكس، وبلغة القرآن، قد يرد، وقد يرد أسفل سافلين حتى أدنى من الموجودات الفيزيائية المحضة، حتى إن القرآن الكريم يعلمنا أن السماء والأرض تأتي لله طائعة وأن كل من في الأرض يسبح باسمه وإن كنا لا نفقه تسبيحها، وأن الحجارة قد تشقق فيخرج منها الماء وقد تخر من خشية الله، إلا أن الإنسان قد يتحول إلى عاص وإلى ظلوم جهول وشديد الكفر، وهذا التدني والهبوط لا شك لا يظهر في الجسد، بل في منهج التفكير، أي ينتقل من البيان والكلام إلى المنطق أي في مستوى المخلوقات العجماء، ويكشف عنها اللسان الأعجمي غير المبين والمعوج.
وقد يتحول منهج التفكير الحيواني إلى الأدنى أي في مستوى قانون الفيزياء والذرات القابلة للتركيب والتفكير، كما نقرأ اليوم فيما يسمى بالتركيبية والتفكيكية التي ذكرنا تفسير مؤسس التركيبية السويسري دو سوسير، من قوله إن العلاقة في اللغات الأوروبية علاقة اعتباطية، بين الدال والمدلول على أن منطق الفهم في اللفظ لا يتم إلا من حيث التركيب الصوتي من أدنى وحدة صوتية (الفونيم) إلى التركيب الشكلي أو المورفين، وهو ما يوصف على أنه الدراسة “المورفولوجية” أي دراسة الذرات داخل الشكل، ولأنه مرتبط بالانحراف في منهج التفكير، ذكرنا أنه أحرى على الإنسان على أنه كالذرة المنغلقة المستقلة (independent) وأنها (individual)، ومن ثم لا يجمع هذه الأفراد المستقلين سواء أنهم داخل الشكل الذي يجعل منهم وضعا (state) والتي ترجمت إلى العربية على أنها الدولة، سنواصل الحديث بعون الله ضمن هذا المسار في تناول خصائص اللسان العربي ومنهج التفكير العربي ومن ثم علاقة الحرف بالكلمة والكلمة بالعبارة والنظر إلى طبيعة الإنسان وما يأتي عنها من طبيعة العلاقة الاجتماعية وقضايا الحضور والغياب والاجتماع والتاريخ والحضارة والمدنية.