التمويل والتأمين للنظم الصحية
بقلم/ د.علي المبروك أبوقرين
هناك لغط ومدارس ومفاهيم ونظريات في تمويل النظم الصحية وللأسف بلادنا تغرق في هذا اللغط ، ومن الضروري التذكير بلمحة تاريخية عن تطور الخدمات الصحية والنماذج التمويلية ، والعرب والمسلمين أول من عرف النظام الصحي والمستشفيات والخدمات الصحية بتنوعها منذ أكثر من 14 قرن، متقدمين عن الغرب وأمريكا بأكثر من ألف عام .
ولا ينكر ذلك إلا جاحد أو ناقص ، وشيد العرب والمسلمين المستشفيات في كل الأوطان التي وصلوها واغدقوا عليها الأموال وزودوها بأمهر الأطباء والأدوية والاطعمة والمكتبات والموسيقى وكل ما يساعد في الشفاء والترويح، وكانت توقف أخصب الأراضي وترصد الأموال للإنفاق على المستشفيات، والعلاج مجانا لكل الناس بلا تمييز ، وتدفع أعلى الأجور للأطباء والصيادلة والعاملين الصحيين، وتدفع للمرضى مبالغ عن فترات ومدد مرضهم وتلقيهم للعلاج بما في ذلك فترات النقاهة لكي يعولوا أسرهم ومن لهم حق عليهم ، ولا يضطروا للعمل في فترات المرض والعلاج والنقاهة.
وعرف الغرب النظم الصحية على استحياء في بدايات القرن العشرين، وتطورت النظم الصحية وبرامج تمويلها وادارتها عالميا، حتى وصلت إلى ما عليه الآن من نماذج مختلفة ومتفاوتة فيما بينها ، منها قائم على الضرائب والميزانيات العامة ، ومنها على أنماط تأمينية مختلفة ( التأمين الصحي الحكومي والخاص ، والتأمين الاجتماعي ، والمجموعات الريفية والفقيرة ، والإسلامي والعالمي ، وتأمين الأفراد والاطفلل والمسنين، وتأمين الموظفين والطلاب والمسافرين والمهاجرين واللاجيئن ، والتأمين التكميلي والوقائي وقصير الأجل والطويل، والمتخصص حسب الأمراض ، وتمويل التكافل الاجتماعي أو المساعدات والمعونات الداخلية والخارجية، ومنها نظم صحية عامة وحكومية كاملة، ومنها خاصه وأهلية، ومنها مشتركة بين أنماط مختلفة، ومنها مركزية الادارة والتشغيل أو لا مركزية،منها المجاني بالكامل لكل الناس ومنها خدمات صحية مدفوعة من الجيب أو بطرق أخرى، ومنها مختلطة بين هذا وذاك وأشكال أخرى متنوعة .
وتتفاوت النظم الصحية وطرق تمويلها وطبيعة الخدمات الصحية بين الدول وبعضها ، وفق الاختلافات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والخلاف واضح بين الدول الغنيه والراسمالية، ومتوسطة الدخل والدول الفقيرة ، وكذلك أساليب إدارة وتشغيل وتمويل النظم الصحية، منها يتراوح بين 10 إلى 17 % من الدخل القومي بتكلفة تتراوح من 5000 إلى أكثر من 13.000 دولار للفرد سنويًا بالنسبه للدول الغنيهة، والدول العربية تتفاوت بين الدول النفطية وغيرها وتتراوح بين 3% الى 7% وبين 30 إلى 50 الى 100 إلى 300 دولار ومن 1200 الى 2000 دولار للفرد سنويًا، مع التفاوت في تعداد السكان والتركيبة الديموغرافية وأعداد المواطنين والمقيمين في كل بلد.
وتتغير هذه النسب والتكلفة بين الدول في أفريقيا وآسيا وأمريكا الشمالية وكندا وأمريكا اللاتينية ، ودول آسيا والتي تختلف فيها من اليابان وكوريا الى الهند وإندونيسيا وماليزيا وبنقلاديش والصين وروسيا وسنغافورة وغيرها ، وتختلف في الدول الاسكندنافية وأستراليا،وتصل في بعض الدول لأرقام متدنية جدا يصعب على معظم الدول متوسطة وضعيفه الدخل تأمين نظم صحية تحقق الصحة المرجوة لشعوبها بمحدداتها المطلوبة.
وتواجه معظمها تحديات كبيرة في البنية التحتية الصحية والقوى العاملة الصحية الكافية والكفؤة ، والتعليم والتدريب الطبي والصحي ، وزيادة الطلب على الخدمات الصحية مع النمو السكاني ، وزيادة الأمراض وأنواعها ومعدلاتها ، وهجرة الكوادر، وتزايد الاعباء الصحية والمادية والاقتصادية والاجتماعية .
ليبيا تملك نظام صحي ببنية متوسطة ترتكز الخدمات في المدن الكبرى، ويفتقد للأعداد الكافية من الكفاءات الطبية والطبية المساعدة والكوادر الإدارية والتشغيلية المؤهلة ، ومع بداية العقد التاني من الألفية تضرر القطاع الصحي من الحروب والصراعات الأهلية.
وتدنت الخدمات وزادت الأزمات التمويلية والاعباء الصحية على المجتمع ، في الوقت الذي تمول فيه الخزينة العامة بالكامل من النفط والغاز ، وغالبية الليبين يتقاضون مرتبات من الحكومة ، والخزينة العامة تمول القطاع الصحي بنسبه 100% ، وغالبية المرضى تنفق أموال طائلة من الجيب والمدخرات على خدمات صحية من منظومة خاصه يعمل جل كوادرها بالقطاع الحكومي ، ومرضى تخصص لهم الدولة ميزانيات ضخمة للعلاج في الداخل والخارج تنفق في غير مجالها وبعيدة عن ما خصصت له.
واتجهت الجهات الرسمية لتعميق الأزمات وتعقيد الأمور على العباد بتبني بدائل تمويلية غير إنسانية ومحاكاة لنماذج نظم صحية عالية التكلفة وسيئة النتائج والمخرجات ، والتي ستكبد الناس اقساط شهرية وأعباء مالية وخصومات ودفعات واشتراكات واستقطاعات لا أول ولا آخر لها في دهاليز بيروقراطية وقواعد وشروط معقده ، ومفصلة على شبكات خدميه محددة ، وخيارات مقيدة ، بتكاليف باهظة وقوائم انتظار لسنوات ، واستبعاد كل ما يعود على المريض بفائدة ما إذا لا يحقق مكاسب للمنظومات التأمينية وجيوشها المستنفعة ، والتي على صحة المجتمع متطفلة ، وعلى المرضى متعايشة ، آخر همهم جودة الخدمات الصحية ، وكفاءة الكوادر والخبرة ، والإمكانات التقنية والتكنولوجية ، ولا معنى لديهم لمفاهيم العدالة والمساواة ، والوصول العسير للخدمات الصحية وصعوبة الحصول عليها ، والطبيعي عندهم التمييز بين الناس ، وتغيير القرارت الطبية ، وتحديد الطرق العلاجية.
هذه أنظمة تمويلية تشجع على الاحتيال من مقدمي الخدمات ، وتعمل على تضخم الفواتير ، وعمل ما لا يلزم لمن لا حاجة له ، واحتيال المتمارضين بمطالبات لفحوصات وتدخلات طبية وعلاجات كاذبة ، على حساب المرضى الفعليين، وبدل أن تسارع الجهات الرسمية المسؤولة لتصويب الأوضاع وإصلاح الانحراف والتشوه في النظام الصحي لجأت الدوائر التشريعية والتنفيذية لحلول مخالفة للمنطق والأخلاق والإنسانية وأوصول إدارة شؤون صحة الناس ، وبدل الاتجاه لتبني نماذج تمويلية صحية حقيقية وسليمة وعلمية وكفؤة في إدارة الموارد، وتحقق العدالة والمساواة ، وتقديم خدمات صحية عاليه الجودة ، سهله الوصول إليها والحصول عليها دون تمييز ، ومحققة أعلى المؤشرات الصحية وتستخدم أحدث التقنيات والتكنولوجيا الطبية والسجلات الطبية الإلكترونية ، والذكاء الاصطناعي ، والكفاءات المؤهلة إداريا وفنيا وطبيا وتمريضيا ، تتبنى الابتكار والتكنولوجيا والرعاية الصحية الاستباقية والوقائية والرعاية الصحية طويلة الأجل ، كما هو الحال بالدول الاسكندنافية التي تتمتع بأفضل النظم الصحية الإنسانية العالية الجودة في العالم ، والممولة بالكامل من الضرائب ، أي من الخزينة العامة وتحقق تغطية صحية مجانية شاملة لجميع المواطنين والمقيمين دون تمييز ، وحق اختيار الطبيب العام أو طبيب الأسرة، ولا تزيد بعض الخدمات الصحية بمقابل عن تكلفة محددة بسيطة سنويًا لا تتعدى في بعضها عن 110 دولار في السنة ، وان زادت تتحول بالمجان مهما كانت تكلفتها ونوعها.
وترتكز الخدمات الصحية بتلك الدول على احتياجات السكان المحلية بتقنيات حديثة وتدريب مكثف ومستمر للكوادر الطبية ، مع الوقاية والتوعية والفحوصات الدورية والتشجيع المتواصل على تغيير أنماط الحياة وممارسة الرياضة والتغذية السليمة، والعناية بالصحة النفسيه والعقلية.
ليبيا في حاجة لإعادة بناء النظام الصحي ، وتأهيل البنية التحتية الصحية ، وتعليم وتدريب الكوادر الطبية والفنية والإدارية، وتحسين الإدارة بالكفاءات ونظم التشغيل والحوكمة والشفافية، ولا حاجة للأنماط التمويلية اللاخلاقية والغير إنسانية ..