“المداخلة الرابعة”..ما الإنسان؟
بقلم/ مهدي امبيرش
أشرت إلى أن الفرق والاختلاف بين الأمم لا يأتي من جهة اللغات، بل من جهة اختلاف الألسن، وذكرنا أن اللسان ليس هذا العضو الذي في الإنسان والحيوان والحشرات، لكنه بمثابة مجاز بذكر البعض وإرادة الكل، أي أنه يحيلنا إلى العمليات التي تتم في الذهن، وهي عمليات تحتاج إلى دراسة وبحث قد تشترك فيها فرق من المختصين في عديد المجالات، على سبيل المثال تحتاج إلى مختصين في الفيزياء في مختلف فروعها، والكيمياء ووظائف الأعضاء وغيرها، إضافة إلى جوانب أخرى تتعلق بالإنسان من نفسية ومن وعي وإرادة ومن ثقافة ونحوها، حتى قلنا: إن الأسلوب الوصفي الذي يقوم به المختصون في قواعد النحو، كالقول في جملة: جاء الطالب، إن جاء فعل ماض مبني على الفتح، ثم يبررون العجز على أن يقارب منهج التفكير فيقولون: إنه لا محل له من الإعراب، على الرغم من أنهم يقولون إن عملية الوصف التي يقومون بها، إنها إعراب، والإعراب وضوح وبيان، كما يعترفون باستحياء، وقد يكابرون مدعين أن القواعد علم، وهم يقولون إن الإعراب فرع المعني، وإذا قبلنا بهذه الاستعارة فلماذا لا يتجهون إلى الشجرة بدل الفرع، مع أن الشجرة كانت ولا تزال استعارة للعلم، ثم يقولون: إن الكتاب فاعل مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره، وهم لا يفرقون بين الإشارة والعلامة، ولا لماذا كانت الضمة علامة الرفع، ثم لماذا يتجاهلون إشارة الضم الخطية التي هي كواو الجماعة، وما دلالة ذلك في التعبير عن القوة التي كانت في الذهن طاقة صرفت من خلال الوعي بطبيعة الفاعل، إنهم يتجاهلون كل هذا ولا يقدمون تبريرا لماذا جعلوا علامة الإعراب تكون على آخر الرمز الخطي، وأن الرمز الخطي علامة على الحرف في الذهن ثم الدلالة الأصلية للحرف في العربية، الذي في الأصل حرف الجبل، ولماذا استعيرت هنا، كذلك علاقة التضايف بين الفعل والفاعل.
أمور كثيرة لا يمكن أن يقدمها لنا أسلوب الوصف الذي هو تحصيل الحاصل والذي لا يفيدنا كثيرا في معرفة اللسان العربي واختلافه عن بقية الألسن، وإن هذا الاختلاف آية من آيات الله، وإن نفهم هذه الآية ولماذا كانت للتعارف الذي يرفض الفوضى والاختلاط الذي نراه اليوم فيما يسمى العولمة أو التعصب العرقي وغيره، هنا سوف يكون اللسان مجالا للكشف عن منهج التفكير وعن قوانين وقواعد الأحكام، ولماذا قال الله إن اللسان العربي مبين وإنه كذلك حكم عربي، وإنه ما من رسول إلا بعث بلسان قومه ليبين لهم، أي دراسة كل معطيات اللسان وخصائصه، وأن اللغة سواء المتلفظة أو غيرها ليست إلا الدليل أو وسيلة العبور التي تجعلنا نفكر في علاقة الدليل بالذي يدل عليه، وهو الذي قلنا: إنه منهج التفكير، حتى يمكن لنا أن نقول بمنهج تفكير عربي كما نقول بلسان عربي ونحو عربي على أساس أن النحو نفسه هو المسار الذي يتضح من خلاله المنهج، وأن تكون الكلمة لا اللفظ مسؤولة لأنها تكشف عن مشيئة وإرادة، ذلك لأن للطبيعة لغة، وكذلك للحشرات لغة، وكل المخلوقات لها منطق قد نفهم المراد منه حيث الله أنطق كل شيء لما في ذلك الإنسان، إلا أن الإنسان يفوقها جميعا بالبيان والكلام، فهو وحده الذي نفخ الله فيه من روحه وإن كان له نفس للحياة بمفهومها العام أي وفق قانون الحياة العام.
لقد تحدثنا في إظهار خصيصة اللسان العربي أن العلاقة فيه محكومة بقانون الحياة أولا، وأن العملية فيه عملية تَكَوّن، ومن ثم لا يمكن فهمه إلا من خلال هذا المعطى، وأن الإشارات على الرمز الخطي هي علامات قلنا إنها عمليات تتم في الذهن، هنا يظهر الفرق بين اللسان العربي والألسن الأعجمية التي لا تتم من خلال تَكَوّن، بل تركيب؛ فالعلاقة في الأعجمية علاقة فيزيائية ذرية كل ذرة مستقلة عن الأخرى ولا يمكن أن تتحد إلا من خلال الشكل الاصطناعي وأن التركيب يسمح بالتفكيك، ومن ثم ذكرنا النتيجة التي وصل إليها اللساني السويسري المعروف: دو سوسير؛ مؤسس التركيبية التي ترجمت إلى العربية على غير دقة، إنها البنيوية، إذ يقول إن العلاقة بين الدال والمدلول علاقة اعتباطية أي أن اللفظ في الإنجليزية قاعدته الأصوات (phontics) وأن كل وحدة صوتية (فونيم) لا مفهوم لها إلا إذا ركبت داخل (مورف morph) وتكون الدراسة فيها تقوم على منطق التركيب المورفولوجي (morphology)، وهذا بخلاف الذي ذكرنا من أن العلاقة في الكلمة العربية هي علاقة خلايا حية وأن كل حرف هو بمثابة الخلية وتكون الكلمة عضواً في جسم العبارة.