المؤسسة الليبية للاستثمار.. من أداة تنموية إلى ضحية للفساد وسوء الإدارة
بقلم/ عثمان الدعيكي
تعتبر المؤسسة الليبية للاستثمار، المعروفة أيضًا باسم “الصندوق السيادي الليبي”، أحد أكبر الصناديق السيادية في إفريقيا. ومع ذلك، تحولت هذه المؤسسة من أداة لتنمية الاقتصاد الوطني إلى مثال صارخ على سوء الإدارة والفساد، وذلك بسبب الفساد المستشري في مؤسسات الدولة والانقسام السياسي الذي عطل خطط الاستقرار. فقد تكبد الصندوق خسائر فادحة نتيجة عمليات النهب الممنهج وسوء إدارة الاستثمارات الخارجية، ما أثر سلبًا على الاقتصاد الليبي وحرم البلاد فرصًا استثمارية كان من الممكن أن تعزز مكانتها الاقتصادية.
أنشئت المؤسسة الليبية للاستثمار عام 2006 برأس مال بلغ 80 مليار دينار ليبي، أي ما يعادل 67 مليار دولار، وفقًا لسعر الصرف آنذاك. تم إنشاؤها بعد دمج عدة شركات ومؤسسات متخصصة في إدارة الاستثمارات الخارجية، مثل شركة الاستثمارات الخارجية وشركة الاستثمارات الإفريقية ومحفظة ليبيا إفريقيا للاستثمار والمحفظة طويلة الأجل. كما تم إلحاق العديد من المشروعات الاستثمارية والودائع المالية بالمؤسسة الوليدة، ما جعلها واحدة من أكبر الصناديق السيادية في إفريقيا وفي مصاف الصناديق العالمية. كان الهدف الرئيسي من إنشائها هو إدارة الفوائض المالية الناتجة عن عائدات النفط واستثمارها في مشروعات تنموية تعود بالنفع على الاقتصاد الوطني.
تنوعت استثمارات الصندوق في العديد من الأصول، بما في ذلك الأسهم والسندات والعقارات والمشروعات التنموية داخل ليبيا وخارجها. إلا أن هذه الاستثمارات تعرضت لخسائر كبيرة بسبب الفساد وسوء الإدارة، خاصة بعد عام 2011، وبعد سيطرة العصابات والميليشيات المسلحة على مفاصل الدولة. فقد تم تحويل مليارات الدولارات من أرصدة المؤسسة الليبية للاستثمار إلى حسابات شخصية أو استُخدمت في تمويل الصراعات الداخلية. وكشفت تقارير دولية عن عمليات نهب واسعة النطاق لأموال هذا الصندوق السيادي، حيث تم تحويل أموال طائلة إلى خارج البلاد دون رقيب ولا حسيب.
كما أدى سوء الإدارة إلى تبني استثمارات فاشلة في مشروعات غير مجدية، ما تسبب في خسائر طالت أرصدة الصندوق، وكان غياب الرقابة والشفافية في إدارة أموال الصندوق أحد العوامل الرئيسية التي أدت إلى خسائره الفادحة. فبدون وجود آليات رقابة فعالة، أصبحت قرارات الاستثمار تُتخذ بناءً على المصالح الشخصية والفئوية بدلًا من المصلحة الوطنية.
كما أن الصراعات السياسية والانقسامات الداخلية أدت إلى تعطيل عمل المؤسسة، حيث أصبحت إدارتها موضوعًا للصراع بين الأطراف السياسية المتنافسة. وأدى ذلك إلى توقف العديد من المشروعات الاستثمارية، ما زاد من حجم الخسائر وأضعف قدرة المؤسسة على تحقيق الأهداف المرجوة.
كان للخسائر التي تكبدتها المؤسسة تأثيرات سلبية كبيرة على الاقتصاد الوطني. فبدلًا من أن يكون هذا الصندوق السيادي أداة لتعزيز النمو الاقتصادي وتحسين ظروف المواطنين، تحول إلى عبء على الاقتصاد الوطني بسبب الخسائر الفادحة التي تكبدها.
كما أدى فقدان الثقة في إدارة الصندوق إلى تراجع الاستثمارات الأجنبية في ليبيا، حيث أصبحت البلاد بيئة طاردة للاستثمار بسبب انتشار الفساد وعدم الاستقرار السياسي. وساهم ذلك في تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، حيث يعاني الاقتصاد الليبي ارتفاع معدلات البطالة والفقر.
يقدم فشل الصندوق السيادي الليبي دروسًا مهمة حول أهمية الإدارة الرشيدة والشفافية في إدارة الأموال العامة. فبدون وجود آليات رقابة فعالة واستراتيجية واضحة للاستثمار، يصبح من السهل إهدار موارد الدولة دون تحقيق أي فوائد ملموسة.
كما أن المشكلة تكمن في الحاجة الملحة لمكافحة الفساد وتحسين الحوكمة في ليبيا. ففي ظل استمرار الفساد وسوء الإدارة والانقسام السياسي، ستظل الثروات الوطنية عرضة للنهب والإهدار، ما يعوق جهود التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
على الرغم من الخسائر الفادحة التي تكبدتها المؤسسة، فإن إمكانات التعافي لا تزال قائمة. ولتحقيق ذلك، تحتاج البلاد إلى إصلاحات جذرية تبدأ بإعلان مصالحة شاملة تقودها قوى وطنية حقيقية بعيدًا عن الأجندات الخارجية، تسهم في رأب الصدع ورتق الانقسامات في نسيج المجتمع الليبي، وتشكيل حكومة وطنية من كفاءات وطنية تعمل على قيادة المؤسسات السيادية، بما في ذلك تحسين إدارة الصندوق، وتعزيز الشفافية، ومكافحة الفساد. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يساعد تعزيز التعاون مع المنظمات الدولية على أساس الندية والمصالح المتبادلة في مجال الاستثمار في إعادة هيكلة الصندوق وتحسين أدائه. فبدون هذه الإصلاحات، ستظل الثروات الوطنية عرضة للنهب والإهدار، ما يهدد مستقبل الأجيال القادمة ويعوق جهود التنمية في ليبيا.