عالم بدون حروب
بقلم/ ناجي إبراهيم
عندما كان الرصاص في مواجهة الرصاص لم تتقدم القوات الصهيونية سنتمترًا واحدًا في قرى الجنوب اللبناني، وعندما صارت التصريحات والمبعوثون وتفصيل رئيس بمواصفات خارجية محل الرصاص تقدمت قوات الاحتلال لتجتاح مدن الجنوب اللبناني وحققت ما لم تستطع تحقيقه بالقوة المفرطة، ولم تلتفت لانزعاج المبعوث الأممي وتحذيرات اليونفيل وشكاوى الحكومة بضرورة الالتزام ببنود وقف إطلاق النار.
التجربة التاريخية تبين لنا أن الاحتلال لا يخرج بالمناشدات ولا يلتزم بالقرارات الدولية ولا يتورع في ارتكاب المذابح والمجازر ويمضي في انتهاكه السافر للأعراف والمواثيق والقوانين الدولية متحصنًا بالحماية الأمريكية ومتسلحًا بالفيتو الذي يبطل أي قرار أممي يدينه رغم بشاعة الجرائم غير المسبوقة التي يمارسها وبشكل يعكس طبيعته العدوانية والإجرامية، يعود الجنوبيون إلى قراهم اللبنانية بالإصرار وتمسكهم بأرضهم المتجذرة فيهم ويجبرون قوات الاحتلال على الانسحاب وبصدور عارية في مواجهة الميركافا وفي تحدٍّ للطيران المسير في حين لم يعد مستوطن واحد إلى مدن شمال فلسطين المحتلة رغم الحماية التي توفرها لهم الآلة العسكرية الصهيونية وداعموها من الغرب الاستعماري، وهنا يظهر الفرق بين المتجذرين بالأرض ويفشلون محاولات اقتلاعهم وبين المهاجرين الذين يحاولون استنباتهم بالقوة في أرض ترفضهم، فالشعب إذا قرر أن يبقى فوق أرضه أو تحتها لا يخيفه رصاص الاحتلال، وهذا ما جسده الشعب اللبناني في زحفه المقدس نحو مدن الجنوب لتحريرها وعودتهم إلى بيوتهم رغم الدمار ليفشلوا مشروع الاستعمار ويؤكدوا حقيقة تاريخية بحتمية انتصار المقاومة وهزيمة المشاريع الاستعمارية.
الحق يعلو ولا يعلى عليه هذا ما قالته غزة وترجمته حركة اللبنانيين الظافرة باتجاه قراهم التي أرادها الإسرائيليون شريطا عازلا يوفر الحماية للمستوطنين في شمال فلسطين المحتلة، صفعة أخرى يتلقاها المطبعون والمراهنون على قدرة أمريكا على هزيمة المقاومة إضافة إلى الصفعات التي يتلقَّونها من دولة الكيان الصهيوني بهزيمة جيش الاحتلال في غزة وهروبه من الجنوب اللبناني أمام الزحف الشعبي الأعزل، ما حدث يجدد الأمل لداعمي المقاومة والمراهنين على حتمية انتصارها ويعطيهم الثقة في النفس وفي المقاومة.
لم يترك المواطن اللبناني، الذي قرر مواجهة الموت والعودة بأي ثمن،أي خيار أمام قوات الاحتلال،سوى لملمة بقايا جيشهم والهروب، وكانت المقاومة في غزة فرضت ذات المعادلة ليأتي المحتل إلى طاولة التفاوض معلنًا فشل الخيار العسكري، رغم حجم الدمار والقتل، ويقبل بوقف إطلاق النار، وأجبر على تحرير الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال.
في علم البيولوجيا جسم الإنسان يقاوم الأجسام الغريبة عن طريق كرات الدم البيضاء التي تهاجمها وتقضي عليها ويوفر لها باقي الجسم الحاضنة لتعود إلى المقاومة في كل هجوم، فالمقاومة قانون طبيعي وفطرية كلما واجهت الشعوب تدخلا خارجيا بأي شكل وتولد من رحم الوطن من أبنائه رجالا ونساء، بالرغم من خطاب التطبيع والاستسلام الذي يحمل المقاومة الأثمان التي تدفعها شعوبنا قتلا ودمارا وحجم الخسائر الفادح إلا أن المقاومة تفرض معادلاتها وشروطها ميدانيا.
فالصورة التي فرضتها المعارك المشرفة التي زفت خلالها خيرة قياداتها قربانا على مذبح الحرية تكذب الخطاب الانهزامي وهي توقف المشروع الاستعماري الذي يحاول بشتى السبل رسم خرائط جديدة للمنطقة ترسخ لسايكس بيكو بمعالمه الجديدة في هيمنة صهيونية على كامل منطقة الشرق الأوسط وبما يحقق الحلم الصهيوني التوراتي في بناء وطن من الفرات إلى النيل ينتهي معه أي حلم في قيام مشروع عربي موحد يجمع شتات الأمة العربية.
وأمام تراجع التيارات القومية وخفوت صوتها تتقدم فلول المتصهينين ويرتفع صوت المطبعين دون خجل أو حياء يبررون التحولات التي تجري في منطقتنا يشيطنون أي جهد يسعى إلى تعطيل مشاريع الغرب الاستعماري الساعي إلى السيطرة على بلداننا من خلال جماعات تشكلت في غرف ودهاليز المخابرات الغربية والذي ما كان ممكنا ومتاحا قبل أن تصاب أمتنا بفيروس الربيع العبري الذي مهد الطريق ووفر المناخات لصعود النخب المرتبطة بالثقافة والسياسة الاستعمارية، وابتليت أمتنا بجماعات من المطبعين تحت ما يسمى منظمات المجتمع المدني التي شكلت طوابير خامسة تسهم في التغرير بشرائح مجتمعية واسعة تحت شعارات حقوقية ومفاهيم للديمقراطية لا يوجد لها ترجمة في الواقع، بل تتناقض مع كل الممارسات الواقعية، ولكنها تحدث أثرا في التفكير ينتج سلوكا يشبه أفعال المتلبسين بالجان لا يرى إلا ما يراه مريده من الشيطان وما يعودهم إلا ضلالا وفجورا وهلاكا وفقرا، العياذ بالله من الشيطان والرجيم وتوحيد صفوف القوى القومية والقوى المقاومة للمشروع الاستعماري وتشكيل تحالفات على الصعيد الدولي لتتشكل جبهات دولية وإقليمية ومحلية لهزيمة الهيمنة الاستعمارية وبناء نظام عالمي جديد يقوم على التعاون والاحترام المتبادل، بالتأكيد سيكون العالم أفضل بدون الرأسمالية المتوحشة التي أشعلت العالم حروبا ونزاعات نتج عنها حربان عالميتان والثالثة تلوح في الأفق وستكون هي الأخطر والأكثر دموية ودمارًا.