المداخلة الثالثة: ما الإنسان؟
بقلم/ مهدي امبيرش
سبق أن تناولنا الفرق البياني في العربية بين السؤال والاستفهام، وقلنا إن السؤال يفتحنا على المطلق، أو الوجود بما هو وجود، أو الحقيقة بما هي علم، وهذا السؤال لا يمكن الإجابة عنه، أولا لأنه مطلق، والثاني لأننا محددون تجاه المطلق أو الحقيقة.
إن هذا هو ما جعلنا نقول إن هذه الأزمة، أي أزمة الإنسان نفسه، هي التي وصفناها بأنها أزمة آدم المحدود الذي أراد أن يدرك المطلق، من خلال حصوله على الخلد والملك الذي لا يبلى، على الرغم من أنه يعلم أنه أُسكِن الجنة مؤقتا بمثابة الإعداد لتحقق مشيئة الله في أنه خلق الإنسان ليكون خليفة في الأرض، أي مستخلفا فيها من خلال بَنيه، وكانت النتيجة أن نسي آدم وزوجه هذه المشيئة الإلهية فأكلا من الشجرة المحرمة لتصير الشجرة في ما بعد رمزًا للفرق بين العلم والمعرفة، على أساس أن المعرفة فرع العلم وليست العلم.
هنا يتضح الفرق بين السؤال عن العلم أو المطلق وبين الاستفهام المنطقي الذي يدل على الوجود، ولكنه ليس الوجود، مثال ذلك الذي سبق أن دوناه، في أن قولنا إن هذا خاتمٌ من ذهب، فإن الإشارة بهذا تدل على أنه موجود، وأن الذهب في الخاتم ليس كل الذهب في الكون، بل بعض الذهب، أي أنه الموجود من الوجود، وخلافًا للفكر اللهوتي فإننا لا نقول إن الله موجود ولا الوجود، بل إنه موجود الوجود، أو خالق الكون وأن قولهم بالدليل (الأنطولوجي) هو دليل على الوجود من الموجود، وليس الدليل على الله موجود الوجود.
لقد أشرنا في المداخلة الماضية إلى الفرق بين العلامة والإشارة، وقلنا إن الآيات في القرآن هي علامات مدركة تدل على قدرة الخالق، وليست على الله تعالى من خلال العلاقة بين الدال والمدلول في الدراسات البيانية العربية التي رفضنا فيها منهج التفكير الأعجمي كالذي قاله اللساني السويسري المعروف (دوسوسير) أحد مؤسسي ما يسمى التركيبية أو على غير دقة (البنيوية)، حيث قال إن العلاقة بين الدال والمدلول في الإنجليزية مثلا هي علاقة اعتباطية، فاللفظ مركب من (فونيمات) أو وحدةٌ صوتية، وكل فونيم لا مفهوم له إلا إذا تم تركيبه، وهذا في نظرنا محصلة لمنهج التفكير المادي الذي يقول بالذرات والتركيب الذري وأهمية الشكل في ضم هذه الذرات داخله، وهذا هو الفرق، ليس في منهج التفكير فحسب، بل وفي الخطاب بين المادية الليبرالية والمادية الشمولية الشيوعية، حيث تقوم الليبرالية على أساس الفردية والاستقلالية الذرية، وأن الإنسان ذرة مستقلة لا يجمعها إلا الشكل الذي يجعل منه موضوعًا (state) بخلاف الشمولية الشيوعية التي تقول إن المركب هو الذي نحكم به على الذرة أو الفرد، ولهذا تبنت الاستنباط والنظر إلى البشر على أنهم جماعات وليست مجتمعات، في حين أن الليبرالية تقول بالتعميم، استنادًا إلى نظرية الذرة عند الإغريقيين: ديموقريطس ولوقيبوس، في القرن الخامس قبل الميلاد، واللذين أكدا على أن جوهر الذرة واحدٌ وأن الخلاف قد يكون في الحجم أو الشكل، وهذا نفسه ما يقوله الليبراليون، فما دام الفرد كالذرة وأن الذرة مساوية للأخرى فيمكن إجراء قانون الذرة على كل الذرات، وهو الذي تتبناه الليبرالية اليوم في القول بالمساواة الحسابية الذي أثبت فشله واستحالة تنفيذه ليبقى على مستوى الخطاب الديموغوجي التضليلي.
هنا يكون الفرق بين منهج التفكير العربي البياني والأعجمي بعامة أن منهج التفكير العربي يتأسس على تكون الخلايا لا الذرات، أي أنه يتقدم خطوة على القانون الفيزيائي الذري إلى المنطق الحيوي، فكل حرف هو بمثابة خلية وله مفهومه الأصلي، ومن مجموع الخلايا يكون العضو، ومن مجموعة الأعضاء يكون الجسم، هنا تكون الحركة حركة حيوية وليست فيزيائية بالمطلق، والإشارات التي تظهر في الإعراب في الجملة العربية تحيلنا إلى علامات وإلى عمليات تتم في الذهن إرادية وواعية، ولهذا فرقنا بين مفهوم اللفظ والكلمة، فالكلمة مشيئة وإرادة ومسؤولية وإن الله تعالى وله المثل الأعلى خلق الكون بكلمة (كن). هذه المقدمة نراها مهمة للمقاربة للسؤال المطروح (ما الإنسان؟).