في فقه الخنوع!
بقلم/ مصطفى الزائدي
اتفاق وقف إطلاق النار بين المقاومة الفلسطينية الباسلة وقوات الاحتلال المعتدية، أحدث ردود أفعال مختلفة، ما يهمنا منها هو تقييم النخب العربية لهذا الاتفاق، بعضهم اعتبره نصرا مؤزرا، تمكنت فيه المقاومة من فرض شروطها على عدو متطرف وحشي لا يعتد بالمواثيق والقوانين الدولية، ولا حدود لممارساته الوحشية، وأثبتت المقاومة أنها قادرة على الصمود في المفاوضات كما كانت قادرة على الصمود في الحرب وتستطيع تحقيق الفارق، والبعض الآخر يراها هزيمة نكراء للمقاومة التي فقدت بعضا من قاداتها وآلافا من رجالها ومئات الآلاف من شعبها، ودمر أكثر من 80% من بنيان قطاع غزة.
يستند الرافضون إلى اعتبار ما تحقق نتيجة الاتفاق نوعا من الانتصارات إلى فكرة تقول إن “درء المفاسد مقدم على جلب المصالح”، ويعتبرونها قاعدة شرعية تضبط حراك المسلمين، وتعني أن أي مصلحة قد ينتج من جلبها أضرار غير مطلوب السعي إلى تحقيقها، بالرغم أن هذه الفكرة لا تنطبق على واقع الحال في غزة، التي هي جزء من وطن محتل يعبث به وبشعبه المحتلون دون رحمة ولا رأفة، يستوطنون أرضه ويهجرون أبناءه ويقتلون شبابه ويتعرضون لنسائه وينتهكون مقدساته، والمقاومة هي رد فعل لذلك العدوان المستمر منذ أكثر 75 عاما.
عندما تتعرض الشعوب للعدوان تنطلق المقاومة وتتطور مع مرور الزمن وشدة العدوان، فلكل فعل رد فعل مساوٍ له في القوة ومعارض له في الاتجاه.
ما حدث في غزة أن العدو أمعن في إهانة الغزاويين الذين تصدرت فئة شجاعة منهم لمواجهة العدوان، فأعدوا ما استطاعوا من عدة ومن رباط الخيل، حفروا الخنادق وصنعوا الصواريخ والمفخخات وما إليها من وسائل القوة البدائية البسيطة وقرروا مواجهة العدو الذي يحتجز آلاف الأسرى الفلسطينيين الذين اعتقلوا ظلما وبلا مسببات، ولا سبيل للإفراج عنهم إلا بالقوة، ولقد شهدت فلسطين عدة محاولات لتحرير الأسرى، منها محاولات تبادل وأخرى فردية لخروج الأسرى من سجون الاحتلال المحصنة الرهيبة من أشهرها هروب الأبطال محمود الزبيدي ومحمود العارضة اللذين حفرا بالملاعق نفق الحرية في سجن جلبوع عام 2021.
في 7 أكتوبر 23 قررت المقاومة الفلسطينية أن تأسر عددا من الصهاينة لتبادلهم بالأسرى الفلسطينيين، وأعلنت منذ اليوم الأول أن هدف عملية طوفان الأقصى ليس تحرير فلسطين، فهذا شأن كبير يحتاج إلى ترتيبات وعدة وعتاد، لكن هدفها تحرير الأسرى، وقالت للصهاينة بكل وضوح أن لا سبيل للإفراج عن الإسرائيليين المعتقلين في 7 أكتوبر إلا من خلال صفقة تبادل للأسرى المعتقلين، بينما وبمكابرة رفض العدو الصهيوني ذلك وقرر استعادة أسراه بالقوة، واستخدم قوة غاشمة لم يشهد لها التاريخ مثيلا، وعلى مدى سنة ونصف كاملة وعلى وقع قصف وحشي مستمر على مدار الساعة والدقائق كان العدو يشن عدوانه المتصل على قطاع غزة، أنشأ الأحزمة النارية ودمر كل المباني والمستشفيات والمدارس ثم قرر بعد شهرين من القصف الجوي الوحشي اجتياحا بريا لغزة وخانيونس ورفح، لكنه لم يفلح إلا في الوصول إلى جثتين لصهيونيين كانا قد قتلا أثناء العدوان، أما بقية الأسرى فلم يتمكن حتى من تحديد أماكنهم فما بالك بتحريرهم.
بعد عام ونصف من القتل والتدمير والتخريب رضخ العدو إلى مطالب المقاومة وأجبر على توقيع مسودة اتفاق مضمونها بكل بساطة إفراج متبادل بين الأسرى الصهاينة والفلسطينيين بأعداد كافية ومناسبة بما فيهم أولئك الذين حكم عليهم الاحتلال بأحكام قاسية ظلما وجورا، في هكذا حال كيف نضع قاعدة درء المفاسد وجلب المصالح موضع التطبيق، فما حدث من حرب ضروس وليست محاولة طفولية لجلب مصالح يمكن تجاوزها لما نتج من مفاسد وإنما هو عملية شرعية للدفاع عن النفس.
من نافلة القول إن بعض العرب الخائفين المترددين استكثروا على هذه الأمة وقواها المقاومة أن تحقق نصرا.
الأكثر غرابة أن البعض يذهب إلى حد القول إن ما جرى مجرد مسرحية متفق عليها بين المقاومة الفلسطينية وبين دولة الكيان، وهذا التحليل علاوة على خبثه فإنه يثير الاشمئزاز، كيف يقال لمقاومة قدمت قادتها وشبابها شهداء وهي تقاوم العدو وداعميه أن تتهم بأنها تعقد صفقة من أي نوع من الصفقات المشبوهة، وكيف يقال ذلك والاحتلال بعد عام ونصف يرضخ للمطالب التي قدمتها المقاومة منذ اليوم الأول.
الحقيقة هؤلاء هم إما أغبياء لا يفقهون في السياسة ولا في الحروب ولا الصراع الدولي وطبيعته ومتطلباته وشروطه، أو هم مجرد عملاء درجة ثالثة يحاولون أن يحبطوا العزائم ويسفهوا انتصارات المقاومة.
إن المقاومة الفلسطينية شرّعت الأبواب أمام الشباب العربي أن لا سبيل إلا المقاومة، وأن هذا العدو على قوته وقوة داعميه يمكن هزيمته، ومن أهم متطلبات النصر هو الصبر والثقة في النفس.
إن الذين يحاولون التقليل من أهمية ما حققته المقاومة إنما يخشون من التداعيات، فإن لما حدث في 19 يناير 25 آثارًا قوية في المنطقة العربية وبخاصة في تلك الدول التي دعمت الاحتلال والعدوان ضمنًا.