هناك في أرض العزة….
بقلم/ محمد بوخروبة
خمسة عشر شهرًا قاومت غزة أعتى قوة في العالم، ولم ترفع الراية البيضاء، خمسة عشر شهرًا من القتل والتدمير والجوع والتشرد والموت، ولم ترفع الراية البيضاء، لم تلقن المحتلين دروسًا في الاستبسال من أجل الأرض والكرامة فقط، بل لقنت العالم العربي كيف يكون الضعيف صاحب الحق قويًّا في وجه الغاشم، ستعود غزة، وسيعود سكانها الذين فضلوا الموت على الاستسلام أو الرحيل، إلى بيوتهم المهدمة ليعمروها، ومعهم راية عزتهم وكرامتهم في كل مكان من غزة العظيمة.
يعد الاتفاق في غزة بمثابة إقرار رسمي من قبل الكيان بهزيمته التي تحققت بالفعل في صبيحة سبت السابع من أكتوبر قبل عام ونيف، لن تمثل الصفقة نهاية الصراع، لكنها ستزيد من تَشظي الكيان، وتَفكُّك مكوناته، وطَي صفحة حكومته المتطرفة، وستمضي المقاومة قدمًا نحو رسم ملامح (اليوم التالي) لوجود كيان محتل في أرض فلسطين، وتكمن الأهمية الاستراتيجية لتراكم الهزائم الجزئية للكيان في أنها ليست هزيمة له فحسب، بل هزيمة للمشروع الاستعماري برمته، والذي لا يمثل الكيان سوى أحد أنساقه المتقدمة في المنطقة.
وقف الإبادة غير المسبوقة من قتل وتجويع وتدمير وتشريد بالإضافة إلى تبادل الأسرى والرهائن وإعادة تعمير غزة هو أمر بالطبع طال انتظاره ويفرح له كل إنسان، ولكني لا أسمععن أي خطوات محددة لإنهاء احتلال دام أكثر من نصف قرن أو عن قيام دولة فلسطينية، ما نسمعه هو مجرد “فض مجالس” يخالف ما يجري على الأرض من استمرار الاحتلال والتوسع في الاستيطان، وعدم ربط الاتفاق على إنهاء القتال في غزة بالتوصل إلى حل عادل ودائم للقضية الفلسطينية، أصل الداء، سيكون خطأ استراتيجيًّاعربيًّا لا يغتفر وفرصة أخرى ضائعة، وكما يقال وكأنك يا أبو زيد ما غزيت.
تتجذر الحقيقة المؤلمة حول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني في التركيز التاريخي للإدارة الأمريكية على الحفاظ على الهيمنة في الشرق الأوسط، غالبًا ما يكون على حساب أكثر من 533 مليون شخص في العالم العربي، لتكريم عائلات الرهائن، وخاصة الأمريكيين، يجب على الإدارة أن تعطي الأولوية للشفافية، تتطلب المعارضة الحقيقية للحرب وضع حد لتوفير الأسلحة إلى جانب واحد ووقف حق النقض الذي يطيل أمد الصراع، في حين أن كلمات بايدن تتردد صدى من القلب، فإنها تتناقض بشكل صارخ مع حقائق دعم الولايات المتحدة لإسرائيل، مما يمكّن العمليات العسكرية ويؤثر على الجهود الدبلوماسية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
بينما يتسابق الرئيس الأمريكي جو بايدن والرئيس المنتخب دونالد ترامب لنسب الفضل في التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار في غزة إلى نفسيهما، يظل التساؤل الأبرز متمحورا حول الأثر المحتمل لهذا الاتفاق على حياة الفلسطينيين اليومية ومساعيهم المستمرة لتحقيق حلم إقامة دولتهم المستقلة، ومع اقتراب موعد تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار، تتجه الأنظار إلى قدرة هذا الاتفاق المعقد، الذي أشرف على صياغة تفاصيله ممثلون عن إدارتي بايدن وترامب، على تحقيق هدفه الأسمى المتمثل في إنهاء دوامة العنف وضمان الإفراج عن الرهائن الإسرائيليين الذين ما زالوا قيد الاحتجاز، تشمل المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار الذي جرى التوصل إليه بشق الأنفس، ترتيبات لتبادل الرهائن الإسرائيليين بالأسرى الفلسطينيين، إلى جانب انسحاب القوات الإسرائيلية من المناطق المأهولة في غزة، وفي حال جرى تنفيذ الاتفاق وفقا لما هو مخطط له، سيجد ترامب فرصة للادعاء بأن تهديده الشديد بأن “الجحيم سيشتعل” إذا لم يُفرَج عن الرهائن بحلول يوم تنصيبه يوم الاثنين القادم، قد لعب دورا حاسما في كسر حالة الجمود.
رفعت الأقلام وجفت الصحف، ولا يبقى إلا أن تعاش الحياة بوصفها هوامش يضيفها المناضل على نصوص هذا العمل العظيم، ولكن إذا كانت البداية معجزة، فهل هناك ما يمنع أن تكون النهاية معجزة أكبر.