لا لرفع الدعم!
بقلم/ مصطفى الزائدي
الاقتصاد الريعي يعني الأنظمة الاقتصادية التي تعتمد فقط على الثروات الطبيعية كالنفط والغاز ولا تقوم على مناشط إنتاجية وخدمية تدر دخلا للدولة، لكن البعض يستخدمه بشكل تحريفي وتعسفي للترويج لسياسة رفع دعم الدولة لبعض الخدمات ولتوصيف مشوه للاقتصاد الاشتراكي، معتبرين أن ذلك يقود إلى الكسل ويقلل من المبادرة والمنافسة ويؤدي بالنتيجة إلى تدهور البلدان، ورغم استحالة استخدام كلمة الريعي من الناحية اللغوية لذلك التحريف المتعمد، فكلمة الريعي في اللغة العربية تعني أفضل كل شيء وعائد النشاط الاقتصادي وزيادة المنتج إلى آخر ما تورده المعاجم العربية، ولن تجد معنى واحدا يدل على التكاسل والكسب غير المشروع دون جهد وعدم الجدية والإخلاص في العمل، من جانب آخر قيام الدولة بكفالة الأفراد ومساعدتهم في تدبير أمور حياتهم في تقديري أولى وأهم واجبات الدولة تجاه الشعب، فلا معنى للدولة إن لم ترعَ مواطنيها وتقدم لهم الأمن والحماية والدعم.
الحقيقة أن المروجين لفكرة رفع يد الدولة عن مساعدة مواطنيها يحاولون تبيان خطأ قيام الدولة بدعم الأفراد وتمويلها لخدمات الرعاية الصحية والتعليمية والاجتماعية، والمساهمة في تحمل تكاليف الطاقة، بالرغم من أن الدولة تستحوذ على كل الثروات الطبيعية وعلى جزء من دخول الأفراد في شكل ضرائب وإتاوات، وكان ينبغي أن تعود تلك الموارد على الأفراد أنفسهم، الغريب أن الذين يرفضون فكرة دعم الدولة للمواطنين يستندون إلى فكرة لا دليل على ثبوتها بأن القطاع الخاص أكفأ في إدارة اقتصاد البلدان وأقدر على تطوير الخدمات المقدمة يستدلون على ذلك بنجاح الدول التي تتبنى النظام الرأسمالي وفشل بعض الدول التي تبنت في زمن ما نظام الاقتصاد الشيوعي.
من المغالطات التاريخية التي ترد من المروجين لرفض الدعم بخطاب غير واقعي يستخدم مصطلح الاقتصاد الريعي في غير محله، أنهم لا يذكرون إطلاقا أن الدول الغربية الرأسمالية في أوروبا بالذات تنفق موارد ضخمة على دعم الخدمات الصحية والتعليمية والرعاية الاجتماعية، بالرغم من أن الثروات الطبيعية فيها ملكية للقطاع الخاص، وتحصل الدولة منها فقط على بعض الضرائب، تنفق منها موارد كبيرة في شكل دعم مباشر للمواطنين، ومن أوضح الأمثلة لذلك ما يتحصل عليه المهاجرون غير الشرعيين إلى أوروبا من دعم حيث يتلقون تعليما ورعاية صحية مجانية وتوفر لهم مساكن وتصرف لهم منح مالية إلى حين استيفاء إجراءات توطينهم، ذلك هو السبب الحقيقي للأزمة التي تعاني منها أوروبا فيما يتعلق بالهجرة وسبب صعود اليمين الرافض للوجود الأجنبي بأوروبا، الحكومات الأوروبية تمول بشكل شبه كامل الخدمات الصحية والتعليمية والاجتماعية لمواطنيها بطرق متعددة، وتدعم بمبالغ طائلة قطاعات الزراعة والصناعة، الليبيون يعلمون ذلك جيدا خاصة بسبب ما تعرضت له بعد 2011 واضطرار الآلاف منهم إلى الهجرة إلى الدول الأوروبية.
فإذا كانت أوروبا الرأسمالية تدعم الصحة والتعليم وكبار السن والعجزة والأطفال وتدعم الفلاحين والصناعيين ليزيدوا من إنتاجهم، فكيف نقبل دعوات البعض في ليبيا إلى وقف دعم المواطنين لتلقي الخدمات اللائقة وفي ليبيا ثروة النفط الدخل الأساسي لليبيين تتصرف فيها الدولة دون ضوابط وتنهب في وضح النهار دون رقيب ولا حسيب، فمؤسسات الدولة وضعت في أيادي حفنة من اللصوص هم من يتبنون اليوم أطروحة رفع الدعم تحت شعار رفض الاقتصاد الريعي.
إن التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية حقوق أساسية للمواطنين ينبغي أن تتحمل الدولة كامل تكلفتها، وأن تقدم بشكل متساوٍ لجميع المواطنين دون تمييز، حتى لا يتم تهديد السلم والاستقرار المجتمعي على نحو مستدام، فلا يمكن القبول بأن يتمكن الميسورون فقط من تلقي العلاج والتعليم والرعاية الاجتماعية المناسبة بينما لا يجد محدودو الدخل مكانا يعالَجون فيه ولا مدارس يتعلمون بها، القطاع الخاص في ليبيا طفيلي يقتات من إمكانات القطاع العام وليس قطاعا خاصا حقيقيا يضيف إلى الموارد المطلوبة لتقديم خدمات الصحة والتعليم، يضاف إلى ذلك ما يطرح من رفع الدعم عن تكلفة الوقود وأيا كانت أسبابه يعني ارتفاع تكلفة كل الخدمات، فالوقود هو عصب كل القطاعات ومدخل مهم في تكوينها.
نعم، لا يمكن أن تباع المواد بأسعار بخسة يستفيد منها اللصوص والمهربون، لكن مواجهة ذلك لا تتم بطرح أفكار غير صحيحة ومحاولة تبريرها كونها الحل الأمثل لقضايا الاقتصاد المنهار بسبب سياسات الدولة العبثية.
الدولة مسؤولة عن مواطنيها ومن واجبها توفير حياة كريمة لهم. أن يبقى النفط والغاز بيدي الدولة التي يتصرف فيها أفراد أغلبهم فاسدون ويرفع الدعم الذي يقدم للمواطنين فذلك أمر عجيب.
نعم تمويل الدولة للخدمات يحتاج إلى تطوير مهم في آليات إدارة وتمويل المؤسسات لكي تقدم خدماتها وكأنها قطاع خاص يعمل لنفسه وتوجد مقترحات عملية وجدية لذلك.
بعيدا عن الخطابات الشعبوية، الصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية حقوق أساسية للمواطن على الدولة أن تتحمل تكلفتها من خلال الموارد التي تتحصل عليها، ومن واجب النخبة الوطنية الصادقة مع شعبها مواجهة المشروعات المشبوهة التي تحاول الاختباء تحت شعار مزيف وكلمة حق يراد بها باطل وهي عدم جدوى الاقتصاد الريعي، فمن أولى مهام الدولة رعاية الناس وتوفير متطلبات حياتهم وأمنهم.