انقسام عقيم يلازم الليبيين
بقلم/ محمد بوخروبة
من الواضح أن الانقسام الأساسي الذي ظهر في ليبيا وسط المهتمين بالشأن العام مع بدايات الأحداث، بقي على حاله، رغم ما مر من سنين وما كشفه الزمن من حقائق مخيبة لطرفي الانقسام، هذه حال محبطة لأنها تقول إننا أمام كتل “فكرية” كثيرة الصخب.
إذا وضعنا جانبًا الاصطفافات ذات المنشأ النفسي أو الهوياتي أو تلك القائمة على مصالح مباشرة، وبحثنا عن جذر سياسي للانقسام الليبي العنيد، نجد أن هناك منظورين متباينين لرؤية ما عاشته ليبيا منذ مطلع 2011، تفصل بينهما هوة لا تُردم، يستند كل منظور منهما إلى حقيقة ثابتة، ويغض النظر عما عداها، أو يغطي ما عداها بشتى صنوف التعمية. ولذلك يتعذر “النقاش” بين أصحاب هذين المنظورين، وإن حدث فإنه يكون شبيهًا بنطح الصخر، أو شبيهًا بحرب بين جزيرتين تفصل بينهما مسافة أبعد من المدى المجدي للأسلحة المتوفرة فيهما، فيملؤون الدنيا ضجيجًا، فيما تبقى كل جزيرة آمنة مطمئنة على حالها.
المنظور الأول، يمكن أن نسميه منظور رفض الخارج، يستند إلى تاريخ طويل من السياسات الاستعمارية، تقسيم ونهب ثروات وتغذية صراعات داخلية وبينية، وزرع وتمكين ومساندة لا حدود لها، التي ساهمت بدور كبير في وصول مجتمعاتنا إلى المأزق الذي تعيشه، ليخرج هذا المنظور بنتيجة تقول إن تدخل الدول الاستعمارية لا يكون إلا من أجل المزيد من التخريب والإضعاف، وبالتالي لا يمكن الاعتماد على الخارج في تحقيق ما هو في صالح بلداننا، لا ينكر أصحاب هذه النظرة سوء الوضع الداخلي، وربما يسهبون أكثر من غيرهم في وصف الحال المتردي للبلاد.
المنظور الثاني، ويمكن أن نسميه منظور رفض النظام السابق، يستند، بدوره، إلى حد قولهم تاريخ طويل من الفساد وسياسات التمييز والتفكيك المجتمعي على يد القوة الحاكمة.. الخ.
يرى أصحاب هذا المنظور أن الواقع السياسي والاقتصادي الذي تفرضه قوة الحكم، يستوجب الخروج على “النظام” الذي يعالج كل خروج عليه بعدائية قصوى يستخدم فيها كل ما تحوزه الدولة من قدرات، فيصل بالبلاد وبالمجتمع إلى المزيد من الضعف والتفكك، وعليه يكون الخلاص من حكم القوة التي تسيطر على الدولة هو الخطوة الأولى والأساسية، ودون أن ينكر هؤلاء ما للخارج من مصالح وغايات تختلف عن مصالح وغايات “الشعب”، يرون أنه من غير الممكن تحقيق تغيير جدي في النظام بدون مساندة خارجية من الدول القادرة.
هكذا يركز أصحاب هذا المنظور على الخراب الذي يسببه “النظام” على حد قولهم، ويعطون محاربته الأولوية، ويبدو لهم أن كل من يتجاوز على هذه الأولوية إنما يصب في خدمة “النظام” ويساهم في استمراره.
يمكن لكل من هذين الطرفين الإسهاب في نقد الطرف الآخر انطلاقًا من حقيقته الثابتة التي ليست محط جدل، دون أن يقدم نقده وحاجاته أدنى فائدة، سوى التكرار والتشديد على ما هو معروف، ودون أن يسعى أصلًا إلى فتح آفاق وأبواب جديدة، أو أن يطرح على نفسه مهمة الخروج من هذا العقم. والواقع أن طرفي هذا الصراع “الفكري” يستشعرون العقم الذي هم فيه، ويعالجون عجزهم بانفعالية وبلا عقلانية على شكل حماس زائد لفكرتهم، وكيل اتهامات قصوى لمخالفيهم من وزن الارتهان والخيانة.. الخ، ما يجعل هذا النقد وسيلة لشحن النفور المتبادل وتعزيز الانقسام العقيم.
إذا تجاوزنا عن وجود من يجادل في أن الغرب لم يكن في الماضي، وليس هو الآن، سببًا رئيسًا في خرابنا، وتجاوزنا عن وجود من يجادل في أن الاستبداد هو الوسيلة المثلى للحكم في مجتمعاتنا، يكون الفالق الرئيس بين جبهتي هذا الجدال العقيم هو اختيار إحدى الحقيقتين المذكورتين وتجريد السلاح ضد أنصار الحقيقة الأخرى.
ورغم الهوى الانقسامي الذي يشكل جزءًا من طبيعتنا، فالحقيقة هي أن ثبات هذا الانقسام لا يعود فقط إلى ذاتية معينة عند المنقسمين، بل يعود أيضًا، وبدرجة أكبر وأثقل، إلى واقع عالمي متراكب شديد التعقيد والعسر، يكون فيه الخارج متحكمًا في تغيير الداخل، إلى حد قريب من وضع الناس أمام خيارات أحلاها مر، ومن الطبيعي أن لا تكون للخارج الأولويات نفسها التي يلتزمها ويسعى إليها المطالبون بالتغيير، بل أن تكون له بالأحرى أولويات معاكسة، ومن الطبيعي أيضًا أن الخارج، إذا ساهم في التغيير، كما حدث في ليبيا مثلًا، سيكون لاعبًا مهمًا فيما بعد التغيير، بما قد يجعل التغيير قليل المعنى إن لم يكن نكوصيًا.
إذا تعذر التوليف بين هاتين النظرتين، وتعذر بينهما النقد الرصين، يمكن لنا الأمل بأن يدرك كل طرف في الانقسام حدوده، وأن يكف، على الأقل، عن تغذية التنافر والعداوات بالتوبيخ والحماس الأرخميدي وكيل الاتهامات، وليسأل كل طرف نفسه، لو افترضنا أنه أتيح له، بقدرة قادر، أن يلغي وجود الطرف الآخر بالكامل، أو أن يجعله وليًّا حميمًا، هل يعتقد أن المسألة الوطنية الليبية ستجد حلها عندئذ؟ وإذا كان يعتقد ذلك، هل له أن يرسم الطريق الذي يراه إلى هذا الحل؟