الصحة في غياب الإنسانية
بقلم/ علي المبروك أبو قرين
الصحة أبعد من الخلو من المرض والعجز والإعاقة الجسدية والنفسية، والصحة مسؤولية مباشرة وأساسية وأولية للدولة وأجهزتها التشريعية والتنفيذية والرقابية والقضائية، ومسؤولية مباشرة على الفرد والأسرة والمجتمع والشعب بأكمله.
ولتحقيق الصحة للجميع تحتاج إلى الجميع، والوصول إلى الأهداف المنشودة للصحة والعافية والرفاه بالضرورة أن تعمل الدولة بجميع مؤسساتها على تعزيز صحة الأمة وتمكينها لكل الناس وتحسينها لهم، والمعروف أن في المجتمعات البسيطة والمحافظة والمقتدرة بالإمكان تجنب أكثر من 85% من الأمراض السائدة في العالم، ومع تحسن الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والثقافية تزداد المؤشرات الإيجابية للصحة العامة ومتوسط الأعمار، وبالإمكان القضاء على الكثير من الأمراض المعدية الخطيرة والأمراض المزمنة، وهذا يتطلب استراتيجيات واضحة وخططا وبرامج مدروسة لبناء نظام صحي قوي وفعال ومنصف يحقق المحددات الصحية والاجتماعية، ومنها توفر خدمات صحية متكاملة عالية الجودة بإمكانات متطورة وحديثة وقوى عاملة صحية مؤهلة تأهيلًا عاليًا إنسانيًا وأخلاقيًا أولًا وعلميًا وفنيًا، ونظام صحي مرن ومتواجد في متناول جميع الناس في كل الأماكن بنفس الجودة والمعايير والمقاييس، يتميز بكفاءة الأداء وفاعلية العمل وسرعة الإنجاز، والدقة في كل شيء، والخطأ مرفوض والغلط مُحرم والتجاوز فيه جريمة، وكرامة الإنسان أساس العمل، والإنسانية روح المهنة، إن غابت حل التوحش والإجرام في حق الناس والمجتمع، كما هي حماية الوطن مقدسة فحماية صحة وحياة الناس أكثر قداسة.
والتاريخ علمنا أن الاستعمار البغيض والأمراض يتساوون في تدمير الأوطان والفتك بالأمم، ولذلك الإهمال والتراخي والتقصير في إيجاد نظام صحي قوي يحمي المجتمع هو عمل لا يغتفر لأنه قتل جماعي للمجتمعات الحالية والقادمة.
والمجتمعات لا تتطور علميًا واقتصاديًا واجتماعيًا إذا كانت تنهش أجسادها ونفسيتها الأمراض الجسدية والنفسية، وتسلعت صحتها وأصبح العلاج أسواقا مفتوحة للطامحين في الثراء من أموال ومدخرات المرضى وذويهم، وهذا النهج لا يبني مجتمعات سوية، حيث يتسابق الحذاق وتجار الأزمات وسماسرة الطب والتعليم الطبي، وتنتشر الشهادات الطبية في تخصصات ما أنزل الله بها من سلطان يحملها من ليس لهم علاقة بالطب والصحة، وينتشرون في المستشفيات العامة والخاصة والمعامل والصيدليات والمراكز الطبية، وتنتشر دعايات التلميع والترويج للأطباء والمصحات والصيدليات والمنتجات الصيدلانية بالمخالفة للأخلاق وأصول مهنة الطب الإنسانية التي حولها زمرة من المنتفعين ماديًا والباحثين عن التميز الطبقي الوضيع على حساب صحة وعافية وسلامة الناس، مستغلين حاجة الناس للعلاج، وحاجة الأبناء ليكونوا من الكوادر الطبية والصحية، وتتبدل مهنة الطب من مهنة إنسانية راقية لمهنة تجارية صرفة، ويتحول مفهوم الصحة من التعزيز والتمكين والتحسين والوقاية ومكافحة الأمراض ومنعها، والتقليل من مخاطر الحوادث والكوارث، إلى أسواق تتنافس على علاج المرضى بكل الوسائل والطرق السوقية، بعيد عن القيمة ( Values ) وتحقيق النتائج الصحية الإيجابية المرجوة، وتتنوع الأساليب للتوسع في هذه التجارة اللإنسانية لتحقيق المكاسب المادية، وتنمو أجسام تجارية أخرى على حساب صحة الناس، ومنها التأمين الصحي، وتجارة الأدوية والمستلزمات الطبية، وشركات الخدمات الصحية، وشركات الدعاية والإعلان، والخدمات الصحية الخاصة والتعليم الطبي الخاص، وكلما زادت الأمراض زادت هذه الأسواق نموا وراجت تجارة الأمراض والصحة الغائبة، وصناع القرار يلجؤون دائما إلى الحلول التي تعمق الفجوة وتعظم الأزمات، وبإيجاد الحلول التي تخلي عنهم المسؤولية أو هكذا يعتقدون.
ليبيا عاشت أزمانا لا وجود لنظام صحي نهائي، وعاشت فترات على معونات وإرساليات طبية تبشيرية أجنبية، وعاشت بعد الاستقلال واستخراج النفط زمن الرفاه فشُيدت المئات من المستشفيات، والآلاف من المستوصفات والمراكز الطبية وكليات الطب ومعاهد التمريض، واستجلاب الآلاف من الكوادر الطبية من الخارج، وابتُعث الآلاف من أبناء ليبيا لدراسة الطب والأسنان والصيدلة في أعرق الجامعات العالمية، وعولج عشرات الآلاف من المرضى من لا يتوفر علاجهم في الداخل في أكبر المستشفيات الجامعية بدول أوروبا، وكل هذا كان بميزانية متواضعة لا تزيد على 10% مقارنة بما يخصص لقطاع الصحة اليوم.
كانت ليبيا سباقة في توفير أحدث التجهيزات الطبية، واستجلاب أمهر الأساتذة في العالم لتعليم طلبة الطب وعلاج المرضى بالمستشفيات الحكومية، والتي تخرج منها هذا الكم من الآلاف من الأطباء الليبيين المهرة المشهود لهم العاملين بدول العالم وبالداخل، عندما كان الطب مهنة إنسانية وليس مشروعًا استثماريا تجاريا بحتا، وإن ليبيا إلى هذا اليوم وسوف تستمر دولة ريعية تعتمد على النفط والغاز ليس إلا، وكل الليبيين موظفون يتقاضون دخولهم من الخزينة العامة، لا يعملون عند الغير ولا لحسابهم، وليس هناك شركات عملاقة يعمل بها مئات الآلاف من الليبيين وتساهم بشكلٍ أساسي في إيرادات الدخل القومي للبلاد.
وليبيا عدد سكانها بسيط وأرضها قارة، وتستطيع أن توفر التمويل اللازم لقطاع الصحة وقطاع التعليم، والبيئات المعيشية الكريمة الصحية، لجعل المجتمع في صحة وعافية ورفاه دون الحاجة لبدائل تمويلية سيئة، تعمق الأزمات الصحية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمع، إذا غابت الإنسانية عن الخدمات الصحية ساءت حياة الناس وزادت أمراضهم وتبخرت مدخراتهم في غير ذي فائدة.