الجانب المخفي من قضية لوكربي الذي يندر الحديث عنه
بقلم/ مصطفى الفيتوري
في الخامس عشر من إبريل عام 1992، سافرت أنا وزوجتي بالطائرة من طرابلس إلى القاهرة لقضاء بضعة أيام قبل عودتي إلى الدراسة في أثينا، وكان منتصف ليل ذلك اليوم بمثابة نقطة تحول، حيث سيدخل قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 748 حيز التنفيذ، وبموجبه تم حظر جميع الرحلات الجوية المدنية من وإلى ليبيا. ومرت سبع سنوات طويلة قبل السماح بعودة الرحلات الجوية مرة أخرى.
كانت تلك المرة الأولى في تاريخ مجلس الأمن، وهو أعلى سلطة في المنظمة الدولية، التي يفرض فيها حظرًا جويًا على الطيران المدني على بلد عضو في ذات المنظمة، كانت سابقة في العقاب الجماعي لشعب كامل بسبب قضية جنائية تختص بها المحاكم لا مجلس الأمن.
بدأت الحكاية عندما انفجرت طائرة بان آم الرحلة 103 في طريقها من لندن إلى نيويورك في ليلة 21 ديسمبر 1988، ما أسفر عن مقتل 270 من الأبرياء بمن ذلك 11 شخصًا على الأرض في بلدة لوكربي الإسكتلندية ما حول اسم البلدة الوادعة إلى اسم مألوف ومشهور وإن كان لغير سبب محبب.
اتهم جيش من المحققين والمراسلين الصحفيين إيران في البداية ثم مجموعة فلسطينية قبل أن “يصححوا” أنفسهم في النهاية ويستقروا على اتهام ليبيا، حيث تم توجيه الاتهام إلى اثنين من مواطنيها، وُصفا بأنهما عملاء مخابرات وهو وصف غير دقيق، وطالبوا بتسليمهما للمحاكمة ليس في إسكتلندا حيث وقع الهجوم ولا ضمن ولاية القضاء البريطاني، والتي تعد إسكتلندا جزءًا منه، ولكن إلى الولايات المتحدة حيث يمكن أن يُعدما إذا أُدينا معا أو أحدهما، في النهاية حوكم المتهمان في محكمة إسكتلندية خاصة أنشئت في هولندا بناءً على فكرة اقترحها البروفيسور روبرت بلاك، وهو خبير في القانون الدستوري الإسكتلندي وبقية التفاصيل صارت تاريخًا.
ولكن أمرين لم يصبحا من التاريخ: الأول هو من كان وراء تلك المأساة الإنسانية الرهيبة ولماذا؟ لقد مرت ستة وثلاثون عامًا منذ أن أمطرت السماء فوق لوكربي جثثًا بشرية وحقائب سفر ومقتنيات شخصية وأوراقًا نقدية ولعب أطفال، ولم نقترب بعد من الحقيقة، ببساطة لأن حكومة المملكة المتحدة كانت وما زالت تخفي الحقيقة حول تفجير لوكربي من خلال حظر نشر بعض الوثائق المتعلقة بالحادث.
أما الأمر الثاني الذي لم يصبح من التاريخ، على مستوى المعرفة والإلمام به، فهو: كيف تعاملت ليبيا وشعبها مع العالم بأسره الذي صار ينظر إليهم بارتياب وشك بعد أن فرض مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة عقوبات ظالمة على كل جانب من جوانب حياتهم اليومية؟ ولماذا لم تعارض أي من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة العقوبات في ذلك الوقت ولم تساعد الليبيين العاديين على ممارسة حياتهم اليومية مثل السفر جوًا إلى مالطا، التي يُفترض أنها كانت نقطة البداية للمأساة بأسرها، والتي تبعد أقل من ساعة عن طرابلس؟
لقد كُتب الكثير عن تفجير لوكربي على مدى السنوات الست والثلاثين الماضية، وأُريق الكثير من الحبر في كل ذكرى ومن خلال تلك الكتابات عرفنا، ربما أكثر مما ينبغي، عن حياة القتلى، ومهنهم، وأسرهم مع القليل من المراعاة لخصوصيتهم، في كل تقرير أو مقال تقريبًا، يُنشر في الإعلام الغربي، كانت ليبيا تُوصَف دائمًا بأنها الدولة الإرهابية الأولى في العالم وأسوأ من أي دولة أخرى في تاريخ العالم وأن حكومتها قمعية و”تعشق الإرهاب” من أجل الإرهاب، ولن تتردد في ارتكاب مثل هذا العمل الشنيع، وكان الكثير من ذلك القول بالطبع دعاية تهدف إلى التأكيد على ذنبها بشأن لوكربي.
ومن المؤسف أنه لم يكتب إلا القليل للغاية عن تأثيرات العقوبات على الحياة اليومية لأكثر من أربعة ملايين ليبي (تقديرات عدد سكان ليبيا يومها نحو 4.5 مليون) لم يكونوا كلهم مؤيدين بالضرورة للحكومة يومها، ولكنهم أيضًا غير مؤيدين لوصفها بــ “الإرهابية”.
ومع أن البيانات الدقيقة غير متوفرة بسبب فقدان الكثير من الوثائق خلال الاضطرابات التي عمت ليبيا عام 2011، كما أخبرني نائب وزير خارجية ليبي سابق، دون الكشف عن هويته. قال: “اتخذت خطوات لتوثيق الخسائر الإجمالية التي تكبدتها ليبيا بسبب عقوبات مجلس الأمن الدولي”، أما لماذا لم تتدخل دول أخرى لمساعدة الليبيين؟ قال محاوري إن معظم الدول كانت خائفة لأن جميع قرارات مجلس الأمن المتعلقة بلوكربي تم تبنيها تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، مما يعني أن جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة “ملزمة بتنفيذها” كما قال.
وقال وزير سابق آخر في النظام السابق كان مسؤولًا عن ملف خسائر لوكربي، متحدثًا من خارج ليبيا، ودون الكشف عن هويته “كان لدينا كل شيء بما في ذلك عدد الوفيات” حيث كان الناس يسافرون بالسيارات إلى البلدان المجاورة في طريقهم للوصول إلى وجهتهم الأخيرة أو طلبًا للعلاج، وبسبب العقوبات، كان على الأشخاص الراغبين في مغادرة ليبيا السفر برًّا إلى مدينة جربة في تونس، على سبيل المثال، ولينتقلوا منها بالطائرة إلى وجهتهم المقصودة، أما الذاهبون إلى ليبيا فكان عليهم السفر إلى جربة ومواصلة الرحلة بالسيارة إلى طرابلس.
وقال الوزير السابق إن الحكومة أرادت أن يكون الملف جاهزًا لتقديمه إلى حكومتي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ومجلس الأمن “في الوقت المناسب” لمناقشة إمكانيات تعويض ليبيا عن خسائرها. كانت ليبيا مؤمنة ببراءتها ولهذا فكرت في التعويض لأن العقوبات التي عانت منها كانت ظالمة وربما غير قانونية أصلًا.
ولكن توجد بعض الأرقام التقديرية التي تشير إلى الخسائر الهائلة التي تكبدتها ليبيا بسبب العقوبات، ففي الفترة ما بين عامي 1992 و1999، وهو العام الذي رُفعت فيه العقوبات، خسر قطاع النفط ما بين 18 و33 مليار دولار، سواء كفرص ضائعة أو عوائد لم تتحقق، ذلك أن قراري مجلس الأمن رقم 748 و883، على وجه الخصوص، استهدفا النفط الليبي مصدر النقد الأجنبي لليبيا، وفي ذلك الوقت، كانت لليبيا أرصدة بقيمة حوالي 8 مليارات دولار مجمدة في الخارج ما حرمها من الأموال اللازمة لشراء جميع أنواع المعدات والخبرات والآلات والأغذية والأدوية.
وخسر قطاع الطيران، الذي كان الهدف الرئيس للعقوبات، ما يقدر بنحو 30 مليار دولار خلال سنوات العقوبات، فيما خسر قطاع الرعاية الصحية ما يقدر بنحو 92 مليون دولار، بينما خسر قطاع النقل أكثر من 900 مليون دولار، وقُدرت خسائر قطاعي الزراعة والصناعة ما يقرب من 10 مليارات دولار.
كما أدت العقوبات إلى ارتفاع عدد الوفيات لأن معظم الناس اضطروا إلى السفر برًّا. وتشير مصادر مختلفة إلى أن عدد الموتى بلغ نحو تسعة آلاف وآلاف الجرحى، وعلى المستوى اليومي ارتفعت أسعار المواد الغذائية اليومية بنحو 40%، وتدهورت قيمة الدينار الليبي في حين ارتفعت أسعار الأدوية بنحو 30%، على الرغم من أن أغلب الأدوية كانت متاحة بالمجان، ولكن الحكومة لم يكن لديها ما يكفي من العملة الصعبة لاستيرادها بكميات كافية، وبحلول الوقت الذي رفعت فيه عقوبات مجلس الأمن الدولي في عام 1999، بعد التوصل إلى اتفاق بشأن تفجير لوكربي، تكبدت الدولة الليبية خسائر مختلفة بلغت نحو 100 مليار دولار، وعلاوة على ذلك دفعت ليبيا 2.7 مليار دولار كتعويضات للضحايا ولرفع العقوبات، ومع هذا كله لم تهتم أي وسيلة إعلام غربية رئيسة تقريبًا بأضرار قضية لوكربي على الجانب الليبي.
وفي مفارقة أخرى أن ليبيًّا آخر من المقرر أن يحاكم في واشنطن في مايو القادم بتهمة تصنيع القنبلة (التي أسقطت الطائرة) على الرغم من إدانة عبد الباسط المقرحي في القضية في عام 2001 وبالرغم من أنه في أغسطس عام 2003، وقعت ليبيا والولايات المتحدة ما يسمى “اتفاقية تسوية المطالبات” التي أنهت كل المطالبات ضد بعضهما البعض بما في ذلك جميع المطالبات الناشئة عن كارثة لوكربي.
وبعد 36 عامًا، يرى الدكتور جيم سواير، الذي قتلت ابنته فلورا في الكارثة، أن إدانة المقرحي نفسها كانت خاطئة وأن المحاكمة المقبلة لأبي عجيلة مسعود ليست سوى استهزاء بالعدالة، وفي أحدث تعليق له حول القضية، التي يتابعها منذ 36 عامًا، دعا الحكومة البريطانية إلى نشر كل ما تعرفه عن هذه الكارثة الفظيعة ومن الحقائق المؤكدة اليوم أن الحكومة البريطانية تخفي عمدًا وثائق تؤكد براءة ليبيا والمقرحي من المأساة، وإذا ما نشرت مثل هذه الوثائق أو تم تسليمها إلى دفاع السيد مسعود في مايو فيتوقع ألا تتم إدانته.