الواقع السياسي بعد الأسد
بقلم/ محمد بوخروبة
ما يقوم به الكيان المحتل من جريمة دولية بتدمير المقدرات العسكرية للشعب السوري والتوغل في حدوده السياسية يجب أن يضاف إلى قائمة الجرائم التي لا بد أن يحاسب عليها اليوم أو غدًا، لقد أخرج الكيان الغاصب جيشًا بأكمله عن الجاهزية بعد خروجه عن سيطرة وإدارة حليفه الذي ظل وفيًا بالتزاماته في تطبيع احتلال الجولان لمدة خمسين عامًا منذ اتفاقية 1974 بين المحتل الغاصب وعملائه بالمنطقة، وتوقيت هذه الجريمة الدولية التي يرتكبها الكيان مستغلًا حالة الفوضى، يثبت حقيقة الدور الذي اضطلعت به الأنظمة الحليفة لها والجماعات التابعة لها في المنطقة في حماية أمن دولة المحتل والتعايش معها على حساب المنطقة العربية أرضًا وإنسانًا وهوية.
لقد أثبت تاريخ الشرق الأوسط، وأجزاء أخرى من العالم، أن السعي إلى تحقيق أهداف غير واقعية غالبا ما ينتهي بخيبة أمل كبيرة في كثير من الحالات، ينتهي المطاف بالطرف الذي يطمح إلى أكثر مما هو ممكن إلى تحقيق أقل مما كان يطمح إليه بكثير، أو ربما لا يحقق شيئا على الإطلاق.
الحل الوحيد الذي بدأ ممكنا هو انتصار أحد الأطراف على الآخر، وهو ما تحقق بالفعل، ومع ذلك، فإن هذا الانتصار لا يعني بالضرورة تحقيق السلام، ذلك لأن الفصائل المسلحة المعارضة الكثيرة التي لعبت دورا في إسقاط نظام الأسد، كانت في السابق متفرقة ومتناحرة فيما بينها.
قد يستغرق تحقيق السلام الحقيقي في سوريا أجيالا، نظرا إلى الأضرار العميقة التي لحقت بالنسيج الاجتماعي للمجتمع السوري، ومعاناة الملايين من السوريين من صدمات نفسية عميقة جراء الأحداث المروعة التي مروا بها تجعل من الصعب التنبؤ بالتأثيرات طويلة الأمد لهذه الصدمات، ومع ذلك يبدو أن تطبيع الوضع في سوريا سيكون مهمة شاقة تتطلب جهودا غير عادية.
إن إعادة الأمور إلى نصابها الطبيعي بعد سنوات من الفوضى والعنف ليست مهمة سهلة، يتطلب ذلك تفكيك الكثير من الميليشيات سواء الموالية للنظام أم المعارضة، التي عملت بشكل مستقل طوال هذه السنوات، إلى جانب معالجة الفساد والابتزاز والترهيب المنتشرين على نطاق واسع، لم يتمكن النظام من كبح الفساد المستشري طوال نصف القرن الماضي، وذلك جزئيا لأن معالجته قد تؤدي إلى تقويض ولاء مؤيديه الذين يغلب عليهم الفساد.
تبدو هيئة تحرير الشام، التي نشأت كفرع لتنظيم “القاعدة “تحت اسم “جبهة النصرة”، وكأنها تمر بتحول جذري أو تحول شكلي من جماعة جهادية إسلامية متشددة إلى منظمة أكثر برغماتية واعتدالا، على الأقل وفقا لتصريحات قادتها، وبعد سيطرتها على مناطق مثل حلب وحماة، أصدرت الهيئة بيانات تصالحية موجهة نحو الأقليات، بمن في ذلك العلويون والإسماعيليون والدروز والمسيحيون، ورغم هذه التصريحات، يبقى السؤال: هل يتبنى الأعضاء العاديون في هيئة تحرير الشام والجماعات المدعومة من تركيا في الجيش الوطني السوري الرؤى نفسها التي تعبر عنها القيادة؟ وما الذي يعنيه هذا التحول عمليا الآن بعد نجاح الهيئة في إسقاط النظام وتولي السلطة؟ الإجابة عن هذه التساؤلات تظل غير مؤكدة.
الوضع الجديد يبعث بلا شك أملا لدى الكثير من السوريين الذين أنهكتهم سنوات من الحرب، والفقر، والقمع، هؤلاء السوريون يتطلعون إلى التغيير بحد ذاته، كما تفعل شعوب أي بلد آخر، على أمل تحقيق السلام والازدهار في حياتهم التي عصفت بها الأحداث، إذا استمرت التطورات في اتباع النمط التقليدي لتاريخ سوريا، فمن المحتمل أن يحل نظام سلطوي جديد محل النظام السابق، ومع ذلك، فإن حقيقة أن سوريا عرفت تاريخيا أنظمة دكتاتورية فقط، لا تعني أن بناء مجتمع أكثر ديمقراطية غير ممكن.
هذه الإمكانية موجودة بالتأكيد، لكنها تتطلب دعما عسكريا كافيا من مجموعات تمتلك الإرادة الصادقة والقدرة الفعلية لدعم هذا الهدف، ولكن حتى الآن، فشلت هذه المجموعات في إثبات قدرتها، بسبب انقساماتها العميقة التي أعاقت عملها كقوة موحدة وفعالة، وفي نهاية المطاف، يبقى العامل الحاسم هو من يمتلك القوة الأكبر والتنظيم الأفضل لتحقيق هذا التحول المنشود، وبغض النظر عن النتيجة، فإن الشعب السوري بأكمله قد دفع ثمنا باهظا لهذه الحرب الطويلة، سواء أكانوا مؤيدين للنظام أم داعمين لجماعات المعارضة، فإن معاناتهم المشتركة تجعل الأمة السورية بأكملها ضحية لصراع مدمر، من الضروري الآن التركيز على تحسين أوضاع الشعب السوري الذي طال انتظاره لتحقيق الاستقرار وإعادة البناء، إن أمام المنتصرين في الصراع المسلح الجديد فرصة ذهبية لبناء سوريا جديدة أفضل.
لقد واصلت سوريا دفع أثمان مواقفها التاريخية، وهويتها القومية، ولعلنا لا نجانب الصواب، حين نرجع ما جرى من تطورات في الأيام الأخيرة، وآخرها سقوط رأس النظام في الدولة السورية، كجزء من ضريبة تلك المواقف.
ليس الهدف من هذا الحديث دفاعا عن نظام سياسي حكم سوريا منذ عدة عقود، فقد بات الحكم عليه من شأن التاريخ، بل هو دفاع عن سوريا ووحدتها، والتصدي لمن يعمل على تفتيتها، والقول بتبعية حلب لتركيا، وتأييد البرلمان التاريخي ليس بحاجة إلى دليل، رغم أن أعضاء البرلمان التركي يدركون أن حلب مدينة سورية، أبى من أبى وستظل كذلك بحكم الجغرافيا والتاريخ، وستظل سوريا عربية، والأمل كبير في تجاوزها لمحنتها، وبقائها موحدة رغم كل محاولات التفتيت، وستظل بلاد الشام، بيضة القبان، التي تحكم التوازنات الإقليمية، والدولية، ولن يكون في صالح السوريين، ولا الشرفاء من الأتراك، ولا القوى الدولية، جعلها مقرا لتصفية الحسابات بين الغرماء، لأن انفلات الأوضاع فيها يعني انفلات الإرهاب في المنطقة بأسرها، وهو ما لا يمكن أن يقبل به عاقل. والقول بإرهابية المارقين، لا يحتاج إلى دليل، فقد كشفت عنهم بالأسماء سجلات هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، سوريا أرض عربية لا تقبل القسمة.